(مداميك) تحاور الخبير الاقتصادي بصندوق النقد والبنك الدوليين د. التجاني الطيب: قطاع البنوك فقد (34 ألف مليار) جنيه والسلطة لجأت لجيوب المواطني

حاورته : سمية المطبعجي حالة من التوهان والضبابية والإنهاك والإرتباك، أقل ما يمكن أن يوصف به الوضع على الصعيد الاقتصادي والمالي في السودان. في ظل إنعدام الشفافية والرؤية من قبل السلطة التي تسيًر أمور البلاد بقرارات إرتجالية دوماً ما تنعكس سلباً على المواطنين المتردية ظروفهم وأوضاعهم أصلاً. إرتفاع متصاعد في سعر صرف العملات الأجنبية، شح السيولة النقدية، الارتفاع الجنوني في أسعار السلع مع ندرتها واتساع دائرة الفقر التي زادت رقعتها حد المجاعة … أوجه الصرف غير المعلومة وسط تكتم عن موازنة العام للعام الثاني بعد الحرب. وضع زاد إرتباكاً مع ترقب إعلان (حكومة موازية) والتساؤل حول وضعية نظمها بما فيها الاقتصادية والمالية. علامات استفهام كبرى قادتنا إلى محاولة فهم ما يجري، فكان الحوار مع المستشار الاقتصادي والخبير السابق بصندوق النقد والبنك الدوليين د. التجاني الطيب إبراهيم . (-)  كيف تقرأ تداعيات الحرب الحالية على الوضع العام للاقتصاد في السودان ؟ الوضع الاقتصادي الراهن واجه منذ العام 2020 تحدي التضخم والنمو السالب بسبب تداعيات الصدمات التضخمية غير المسبوقة التي بلغت ذروتها في يوليو 2021 . وللأسف زادت الحرب لحد كبير أجواء عدم اليقين المحيطة بمسار تعافي الاقتصاد نتيجة لتطورين متزامنين : الأول ، الفشل في ضبط المالية العامة قبل الحرب. والثاني: التدهور المضطرد في أوضاع المالية العامة بسبب الحرب. هذا الوضع أثر سلباً على مؤشرات الاقتصاد الكلي . فنتيجة للأضرار الجسيمة التي الحقتها الحرب بالقطاعات الإنتاجية والخدمية تراجع الناتج الإجمالي المحلي، أي جملة السلع والمنتجات، خلال عام من 2023 إلى 2024 بنحو 20% و15% على التوالي بحسب تقديرات البنك الدولي مما يعني تقلص حجم الاقتصاد لأكثر من 30% ، أي بنحو 12 مليار دولار خلال العامين . أدى هذا إلى إشتداد الاختناقات في الإنتاج المحلي ما زاد بشكل كبير من الإعتماد على الواردات خاصة الغذائية والحربية والضغوط على صرف العملة الوطنية مع تراجع الحجم الكلي للصادرات بإستثناء الذهب الذي وصلت حصائله لأول مرة إلى 1.9 مليار دولار في عام 2024 .  “توقعات باستمرار الإنكماش الاقتصادي وتأزم الأوضاع المعيشية حال استمرار الحرب”  في حال استمرار الحرب فمن المتوقع استمرار الإنكماش الاقتصادي هذا العام 2025 بنسبة 1.8% حسب تقديرات حكومة السودان المكلفة، ما يعني استمرار تراجع دخل الفرد في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي للعام السادس على التوالي، إذا اعتبرنا أن معدل النمو السكاني المقدر بحوالي 2.6% مما سيفاقم من تأزيم الأوضاع المعيشية وإتساع دائرة الفقر والبطالة. ويلاحظ أن توقعات  سلطة الامر الواقع لنمو الكتلة النقدية بمعدل 45% لعام 2025 لا يتماشى مع النمو المتوقع لإجمالي الناتج المحلي مما يؤشر إلى ارتفاع الأسعار بدلاً من تحجيمها، وبالتالي زيادة وتيرة تباطؤ النشاط الاقتصادي خاصة في ظل عدم حل أزمة السيولة الحالية . (-) وصل سعر صرف العملات الأجنبية معدلات غير مسبوقة، فيما ظلت معدلات التضخم المعلنة مرتفعة لكنها أقل من المتوقع في ظل تفاقم الأزمة المالية، فهل تلك المعدلات حقيقية ؟ على مستوى سعر صرف العملة الوطنية فقد إرتفع من 570 جنيهاً للدولار عند بداية الحرب إلى 2600 جنيه في السوق الموازية ، في ارتفاع بنسبة (367%). و2000 جنيه للدولار في البنوك حتى مطلع مارس 2025 بنسبة زيادة (251%) . مع ملاحظة الفرق الكبير في نسب الإرتفاع بين السعرين ، ما يفسر تحكم السوق الموازية في النقد الأجنبي . مما يشير إلى أن زيادة سعر الصرف الحالية تحتاج إلة مرونة أكثر في إطار سياسات شاملة متكاملة لضبط المالية العامة وتحريك الاقتصاد الحقيقي لفك اختناقات العرض واستعادة التوازن بين الطلب والعرض في الاقتصاد الكلي. ” أتوقع أن يكون معدل التضخم أكثر من المعلن بوصوله 320% كأعلى مستوى بعد الحرب” وفيما يتعلق بالتضخم أي حركة الأسعار الكلية فقد وصل معدله إلى مستوى غير مسبوق بنسبة 412% في يوليو 2021، ثم تراجع تدريجياً مع التكيف الاقتصادي ليصل الى 63% في فبراير 2023 بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء . لكن نتيجة للاختناقات التي ألحقتها الحرب في الاقتصاد الكلي استمر معدل التضخم في الارتفاع حتى وصل 216% بنهاية سبتمبر 2024 بنسبة زيادة 243% تراجع بعدها تدريجياً حتى وصل إلى 145% بنهاية يناير 2025 ومن المتوقع أن يصل إلى 118% بنهاية العام الحالي بحسب بيانات البيانات الحكومية المتوفرة. ولكن أتوقع أن تكون النسبة الحالية لمعدل التضخم 210% ، وأن يكون قد وصل أعلى مستوى بعد الحرب بنسبة 320% . وأشير إلى أن تراجع معدل التضخم لا يعني أنحسار التضخم وإنما إنخفاض وتيرة ارتفاع الأسعار ، فالتضخم ما زال هاجساً كما تشير الأرقام .فالحرب وما لها قد تسببت في صراع سياسي وسياسات مالية واقتصادية مرتجلة وتجفيف مصادر الاستثمار والعون الأجنبي والقروض الميسرة وتحويلات المغتربين ، مما أدى إلى عجز الميزان التجاري المتمثل في الفرق بين الصادرات والواردات والذي من المتوقع أن يكون قد بلغ أكثر من 7 مليار دولار بنهاية 2024 . وهذا بدوره ألقى بظلاله السالبة على سعر صرف العملة الوطنية وحركة الأسعار والأداء الكلي لميزان المدفوعات . “(16.5 مليار) جنيه الإنفاق المستهدف للميزانية غير المعلنة لهذا العام، 90% منه للقطاع العسكري”    وعلى صعيد الأوضاع المالية العامة للدولة ، هناك للأسف تكتم حكومي شديد على التأثير المالي للحرب على أوضاع المالية العامة، حيث أن موازنة العام 2023 كانت آخر موازنة معلنة ، مما يعني عدم الشفافية وعدم المصداقية وزيادة حالة عدم اليقين الناجمة عن الحرب . لكن بعض التسريبات تشير أن الإنفاق الكلي المستهدف في موازنة العام 2025 غير المعلنة بلغ 16.5 مليار جنيه مقارنة ب 8.2 مليار جنيه في 2023 ، منها 14.9 مليار جنيه ، ما يعادل 90% ، للإنفاق العسكري ، و1.6 مليار جنيه، ما يعادل 10% لبقية القطاعات الأخرى.أما جانب الإيرادات فقد تم تقديرها في موازنة 2023 بنحو 7.4 مليار جنيه ومن المتوقع أن تكون قد انخفضت إلى 1.5 مليار جنيه بنسبة 80% نتيجة الحرب حسب تصريحات وزير المالية . ما يعني أن العجز الكلي في موازنة 2025 قد يصل إلى 6.7 ألف مليار جنيه مقارنة مع 833 مليار جنيه في موازنة عام 2023 بنسبة زيادة 700% . عجز مالي بهذا الحجم غير المسبوق سيؤدي في غياب التمويل الخارجي وأدوات الدين الداخلية إلى إعتماد تمويل العجز بالسحب على المكشوف ، أي الإقتراض من البنك المركزي بدون سداد . وهذا هو المصدر الرئيسي لغلاء الأسعار وتدهور الإنتاج وسعر الصرف وتفاقم وتردي الأوضاع المعيشية وتمدد البطالة والفقر . (-)  على فرض قيام حكومة موازية، هل يمكن قيام نظامين ماليين في دولة واحدة وكيف سيكون وضعها من جهة الإلتزامات المتبادلة أمام المؤسسات المالية الدولية؟مثل هذه الحكومة الموازية لا تؤثر على النظام المالي القائم، إذ أن النظام المالي العالمي بشقيه السياسي والاقتصادي لا يعترف بنظامين ماليين في دولة واحدة معترف بها دولياً . لكن هناك خياران أمام تلك الحكومة : أولاً: أن تعلن في أرض غير معترف بها دولياً مثل أرض الصومال . ثانياً: أن تمثل التعايش بالتراضي في إطار حكومة الدولة المعترف بها دولياً كالحالة الليبية . ومن الملاحظ أن كلا الخيارين غير عملي وغير مستدام . (-) بما تفسر أزمة السيولة النقدية الماثلة الآن وما لجأت إليه السلطة من استبدال العملة وسريانها في منطقة دون الأخرى ، وما هي التداعيات الاقتصادية والسيادة على النظام المالي ؟ جذور أزمة السيولة تعود إلى فقدان قطاع البنوك لنحو 75% ، ما يعادل 34 ألف مليار جنيه من موجوداته نتيجة الحرب، مما وضع صناع القرار أمام ثلاث خيارات : أولاً إعلان إفلاس القطاع البنكي ما يعني إنهيار الاقتصاد . ثانياً : إعادة تمويل القطاع بواسطة البنك المركزي أو شركات التأمين إذا كانت الموجودات مؤمنة . ثالثاً : فرض إعادة تمويل القطاع من جيوب المواطنين باستبدال ما لديهم من عملات نقدية من فئات ال(500- 1000) جنيه بأخرى جديدة وإيداعها في البنوك وصرف إيداعاتهم عبر حسابات بنكية فقط . وللأسف لجأت الحكومة للخيار الأخير وهو الأسوأ وتسوية المعاملات المالية بالدفع الآلي . وهذا الخيار غير عملي ولم يطبق حتى في الاقتصادات المتقدمة في أمريكا والصين ناهيك عن واحدة من أفقر بلدان العالم كالسودان. ، ما يعني أن القرار سياسي بامتياز . “قطاع البنوك فقد (34 ألف مليار) جنيه ، ما يعادل 75% من موجوداته والمعالجة كانت الأسوأ” ونتيجة لاتخاذ القرار الخاطئ ما عاد المتعاملون مع البنوك يستطيعون الحصول على ما يحتاجونه من نقود كاش لمواجهة متطلباتهم المعيشية بحجة شح السيولة النقدية ومشاكل التطبيقات البنكية ، مما زاد من ركود حركة النشاط الاقتصادي ، وخير مثال لذلك وقف برنامج الغذاء العالمي لمساعداته المالية في السودان لعدم إيجاد سيولة نقدية لاستبدال الدولار . مما انعكس سلباً على الأوضاع الإنسانية المتردية التي قد تشهد المزيد من التدهور بعد تجميد العون الأمريكي الخارجي وعدم توقع سد الفجزة بواسطة المانحين الآخرين ، الذين قدموا في ابريل 2024 تعهدات بقيمة 2.2 مليار دولار في مؤتمر دولي من أجل السودان والدول المجاورة ، تحصل منها حتى الآن نحو 15% فقط . وللأسف رغم وضوح عدم واقعية الخيار ، يبدو أن التعنت السياسي غير آبه لآثاره الكارثية على حركة الاقتصاد والوضع المعيشي المتأزم وضرورة مراجعته وإصدار أوراق نقدية من فئات أعلى من فئة الألف جنيه إذ أنها ما عادت تصلح لشراء بصلة. (-) في افضل الفرضيات تفاؤلا، كيف يمكن أن تساهم المؤسسات المالية الدولية في إعادة الإعمار بعد الحرب ؟ هذه عملية طويلة المدى وتحتاج إلى حجم كبير من الموارد المالية والكوادر المهنية عالية التأهيل والخبرة تعمل بكفاءة وشفافية في إطار مؤسسي مدعوم بإرادة سياسية قوية . لذلك من الضروري إتخاذ إجراءات وتدابير عالمية عاجلة وتشمل وضع جدول زمني ممرحل بأسبقيات محددة تضمن كشف وإزالة الزخاير والألغام وركام ومخلفات الحرب الأخرى ، وإعادة الخدمات الضرورية في مجال الصحة والتعليم واستعادة الخدمات الأساسية في مجال خدمات الطاقة والمياه والإتصالات والمساعدات الإنسانية والغذائية والتركيز على تشجيع وتحسين الإنتاج الاقتصادي خاصة الغذائي لمساعدة القطاع الخاص لمجابهة الحاجات الضرورية وتوفير فرص عمل خاصة للشباب . ويجب أن تشمل الإجراءات العاجلة إعطاء الأولوية لمشاريع توفير السلع والخدمات الضرورية .ولتقدير الخسائر الاقتصادية والاجتماعية في الحرب يمكن الاستعانة بالبنك الدولي والأمم المتحدة وبنك التنمية الافريقي لوضع تقرير مؤقت لتقييم الخسائر بهدف تنوير أصحاب المصلحة ، السودان، والمجتمع الدولي بالبعد الأولي لأضرار الحرب وكقاعدة لدراسة أعمق وأشمل وفق (منهج تقدير الدمار والحاجيات السريع) المتعارف عليه عالمياً ، والذي استعمله البنك الدولي والأمم المتحدة لتقييم آثار دمار حربي غزة واكرانيا . والدراستان يمكن إعدادهما بمساعدات طوعية من المانحين دون أي تكلفة لحكومة السودان .وعلى الصعيد المؤسسي أولاً: إنشاء مفوضية عليا للبناء وإعادة الإعمار والتنمية للمساعدة في والغشراف على : 1) إعداد الدراسات اللازمة لتقييم ما دمرته الحرب ومشاريع إعادة الإعمار والبناء . 2) وضع خارطة طريق شاملة للتعافي الاقتصادي والتعمير ، تقدم للمؤسسات المالية والدولية والإقليمية والمانحين للدعم . 3) الإشراف على إعداد وتنفيذ إعادة البناء والإعمار . 4) ضمان الشفافية والمراقبة لتنفيذ المشاريع . 5) الدعوة لمؤتمر المانحين لحشد الموارد المالية اللازمة لتمويل تلك المشاريع .ثانيا: إنشاء صندوق إئتماني لإستلام التعهدات المالية وإدارته تحت إشراف المفوضية المقترحة وصندوق النقد والبنك الدوليين وبنك التنمية الافريقي .