كيف يصمد المهنيون في مواجهة أهوال الحرب السودانية؟

بينما تتعمق جراح السودان مع استمرار الحرب، يواصل المهنيون السودانيون معركتهم الخاصة، ليس فقط من أجل البقاء بل للحفاظ على شريان الحياة لمجتمع ينهار تحت وطأة الصراعات الدامية. فكل معلم يحاول تقديم دروس لطلابه وسط الدمار، وكل طبيب يعالج المصابين في مركز طبي مؤقت، وكل صحافي ينقل الحقيقة وسط المخاطر، يروي قصة مقاومة تُكتب بدموع الأمل والكفاح. في دارفور، يجلس المعلم أحمد علي في غرفة ضيقة مضاءة بشمعة، يحاول إعداد دروس لطلابه الذين شتتهم النزوح واللجوء. يتحدث بصوت يملؤه الإصرار قائلاً لـ”العربية.نت”: “التعليم هو سلاحنا الوحيد لمواجهة هذا الجنون”. لا تقتصر قصة أحمد على كونه معلمًا فحسب، بل هو رمز للكثيرين من المهنيين السودانيين الذين يتنقلون بين الحياة والموت في محاولة للحفاظ على ما تبقى من مجتمعهم. لكن هذه الحكايات ليست مجرد قصص فردية، بل هي جزء من أزمة أكبر. فالمعلمون في السودان، الذين كانوا في قلب التغيير أثناء الثورة ضد نظام البشير المُستبد، يواجهون اليوم تحديات غير مسبوقة. الرواتب متوقفة منذ أشهر طويلة، وما يُصرف منها لا يتجاوز 15 دولارًا شهريًا، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية. إذن، ما الذي يجعل هؤلاء يواصلون رسالتهم رغم هذه المعوقات؟ الإجابة تكمن في الإيمان العميق بأهمية دورهم في الحفاظ على الأمل وسط الخراب. وفي أحد المراكز الطبية المؤقتة في ولاية كسلا، تقول إحدى الطبيبات لـ”العربية.نت”: “نحن نحاول إنقاذ الأرواح، لكننا أنفسنا نواجه خطر الموت كل يوم”. هذه الكلمات تعكس الوضع المأساوي الذي يعيشه العاملون في القطاع الصحي. بين فقدان الأمن وتفشي الأمراض وقلة الموارد، يصبح عملهم أشبه بمعركة مستمرة مع الوقت. في هذا السياق، تظهر القائمة التي أعلنتها اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان يوم الاثنين، والتي تضم أسماء 78 من الكوادر الطبية الذين قضوا نحبهم منذ بداية النزاع في أبريل 2023. هذه الخسائر المروعة، سواء كانت بسبب طلقات نارية أو قذائف مدفعية أو التعذيب، تضع العالم أمام مسؤولية إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبينما يواجه الأطباء هذا الواقع المرير، يواصل الصحافيون السودانيون أيضًا معركتهم ضد الصعاب. فمنذ اندلاع الحرب، تعرض العديد منهم للاعتقال، والتعذيب، بل والموت. فقد أكد محمد عبد العزيز، سكرتير نقابة الصحفيين لـ”العربية.نت” أنه في ظل الحرب الوحشية التي اجتاحت السودان، دُمّرت 90% من البنية التحتية للمؤسسات الإعلامية، التي تعرضت لنهب ممنهج، ليجد نحو ألف صحفي وصحفية أنفسهم بلا وظائف، مجبرين على مغادرة الوطن أو البحث عن مهن أخرى. لكن الأشد قسوة كان ما حدث لشبكات الإنترنت والاتصالات، التي تم قطعها عمدًا في 80% من الولايات، مما جعل من المستحيل توثيق الأحداث المروعة التي كانت تقع على الأرض. أما الواقع الأكثر إيلامًا، فقد تعرضت الصحافة السودانية لأكبر الانتهاكات على مدار 18 شهرًا. فقد قتل 445 صحافيًا وصحافية، أو تم اعتقالهم أو تعذيبهم، أو دُمّرت منشآتهم الإعلامية. قُتل 13 صحافيًا على الأقل، بينهم صحافيتان، بينما استُهدف 28 صحافيًا بالرصاص بشكل مباشر، سواء أثناء عملهم أو كاستهداف شخصي. لم تتوقف الاعتداءات هنا، فقد تعرض 27 صحافيًا للضرب المبرح ونهب ممتلكاتهم الشخصية، بما في ذلك 3 صحافيات، في حين تم اختفاء قسري واعتقال نحو 60 صحافيًا آخرين. لكن الأسوأ كان في حملات القمع التي طالت الصحافيين، فقد تم اتهام 20 صحافيًا بالانتماء إلى قوات الدعم السريع، وأُصدرت أوامر قبض بحقهم. كما تلقى 58 صحافيًا آخرون تهديدات مباشرة، بينهم 26 صحافية، مما جعل من الصعب أن تجد الصحافة مساحة للنهوض في وجه هذا الهجوم العنيف. أما الصحافيون الذين تمكنوا من الفرار إلى الخارج، فيواجهون تحديات جديدة؛ فقد فقدوا شبكاتهم المهنية، ويواجهون صعوبة في التأقلم مع بيئات إعلامية مختلفة، إضافة إلى مشاكل اللغة وتصاريح العمل. هذا الضغط النفسي المتواصل جعل حياتهم المهنية والشخصية تتأرجح على حافة الانهيار. ومن بين هؤلاء، لجأ نحو 300 صحافي إلى الخارج، بينما تبقى التقديرات حول أعداد النازحين داخل السودان أمرًا مجهولًا. من آثار الحرب في الخرطوم الخرطوم السودان ويؤكد عبد العزيز لـ”العربية.نت” أن الصحافة في السودان ليست فقط مهددة، بل هي في حرب مستمرة من أجل البقاء، وسط واقع مأساوي يعكس الفوضى التي اجتاحت البلاد ويزيد من معاناة الصحافيين الذين لا يزالون يدافعون عن الحقيقة في مواجهة أكبر التحديات. وفي هذه البيئة المظلمة، يجد الصحافيون أنفسهم في معركة مزدوجة: معركة ضد محاولات التضييق من طرفي النزاع، ومعركة للحفاظ على رسالتهم المهنية كما يؤكد محمد عبد العزيز لـ”العربية.نت”. لكن الحقيقة المؤلمة التي يجب أن نتوقف عندها هي أن استهداف المهنيين ليس مجرد صراع محلي؛ إنه جزء من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إضعاف الدولة السودانية نفسها. فالصحافيون، الأطباء، والمعلمون وأساتذة الجامعات، ليسوا مجرد موظفين، بل هم الحاملون للوعي وركيزة التغيير في أي مجتمع. وإضعاف هذه الفئات يعني تمهيد الطريق للقوى العسكرية والميليشيات لتملأ الفراغ، مما يعزز من الانقسامات والفوضى. ففي هذا السياق، يظل المهنيون السودانيون بمثابة صمام الأمان الذي يحافظ على كيان الدولة السودانية وسط هذا الصراع المشتعل. ولكن وسط هذه الأزمات، يظهر أيضًا جانب من الأمل. على الرغم من الحروب والمعاناة، فإن المبادرات الفردية لا تتوقف. ففي المناطق الريفية، يقيم المعلمون فصولًا دراسية للأطفال النازحين، وتستمر العيادات الطبية المتنقلة في تقديم الرعاية الصحية للمحتاجين وفي مكافحة الأوئبة والأمراض. هذه المبادرات الصغيرة، رغم محدوديتها، تمثل الأمل الحقيقي في مستقبل أفضل. المعلم أحمد علي يختتم حديثه قائلاً: “الحرب لن تدوم للأبد. سنظل هنا، نحارب بالكلمات، بالعلم، وبالأمل”. هذه الكلمات تعكس روح المقاومة التي يتمتع بها الشعب السوداني، رغم كل ما يمر به من مصاعب. ففي قلب هذه المعاناة، يظل الأمل قائمًا في أن تلك الجهود الصغيرة، المبنية على الصمود، ستسهم في إعادة بناء الوطن. بينما يواصل المهنيون السودانيون معركتهم، يبقى السؤال: كيف يمكن لهذا الصمود أن يتحول إلى قوة دافعة لإعادة بناء الوطن؟ في الوقت الذي تتضاءل فيه فرص السلام، تبقى شجاعة هؤلاء المهنيين هي التي تُبقي شعلة الأمل مضيئة في هذا الظلام الدامس.