حتى لا يطير الدخان..!

“” عندما يدفعك العالم لكي تجثو على ركبتيك فاعلم بأنك في الوضع المناسب للصلاة” .. جلال الدين الرومي ..!

” الخمس دقائق الأخيرة قبل وصول البوليس” عنوان لنص مسرحي كان يعكف على تأليفه كاتب شاب يدعى حازم قام بتجسيد دوره صلاح السعدني أيام شبابه في مسلسل “سفر الأحلام”..!

بطل المسرحية أيضاً كان كاتباً شاباً يسعى إلى تغيير مجتمعه من خلال انتقاد الشخصيات التاريخية التي تسيطر على طريقة تفكير الناس، وكان ثمن الوصول إلى ذلك التغيير هو انتحار الكاتب الذي جعل الناس يقرأون له بعد موته ويتأثرون بأفكاره، فيحدث التغيير المنشود..!

وهي كما ترى فكرة عالية الكُلفة وتنطوي على قدر لا بأس به من الحذلقة اختار وحيد حامد كاتب المسلسل أن يدلل بها على فداحة الأثمان التي يدفعها الأفراد وتدفعها المجتمعات لحدوث التغيير..!

قبل أقل من عامين، وقبل اندلاع هذه الحرب كانت ردة الفعل التي قد تصدر عن معظم الناس عند سماع خبر فاجعة اجتماعية هي ذلك الشعور المبهم بالارتياح. ومبعث الراحة هو أن ما يحدث لأطراف تلك الفاجعة لا يحدث لهم..!

هذا الشعور يشبه تفسير أرسطو “نحن نضحك على من هم أقل منا، نضحك على قبحهم ونشعر بالفرح لأننا ننتمي إلى طبقة إنسانية أعلى” ..!

في سودان ما قبل الحرب كنا نسمع عن حكم بالإعدام أو السجن المؤبد على شخص ينتمي إلى هامش واقعنا المعيش ونحن مرتاحون لبعد المسافة التي تفصل محيطنا الخاص عن ذلك المناخ الاجتماعي الذي تقع فيه مثل تلك الجرائم..!

كنا نتأمل في ذلك البون الشاسع ثم نحمد الله على اقتصار بعض الشرور على أهل الطبقات الدنيا وسكان الأطراف النائية، متناسين أننا كلنا نحن وهم ومرتكب الجريمة ننتمي إلى ذات النسيج الاجتماعي وإن حبانا الله ببعض الأزهار المطرزة على ذات القماش..!

ربما أكون قد أسرفت في تخصيص السطور السابقة لإقناعك بأننا كنا نتشارك المسئولية في سريان بعض الظواهر الكارثية وانتشار بعض الجرائم البشعة قبل اندلاع هذه الحرب التي أتت – في بعض وجوهها – كنتيجةٍ راجحة لتبايننا الاجتماعي ونفورنا القومي..!

المجتمعات العاقلة لا تقلل من شأن ظواهر الطرف والأسفل والقاع والهامش، المجتمعات الحكيمة تعلم جيدًا أن اجتناب انتشار الظواهر السالبة في المركز يبدأ دوماً بالإخلاص في معالجة قضايا الهامش ..!

فضلاً عن أن المركز نفسه لم يكن بخير. قبيل الحرب كانت رقعة جرائم الأسرة قد اتسعت وبدأت ترتقي – على استحياء – مراتب الظاهرة. وكنا نواجه مغبة استشراء الفقر واستتباب الغلاء وتفشي البطالة..!

التحولات الاقتصادية قبل وبعد الثورك أقلقت منام القيم الاجتماعية وهجعة الأخلاق الأسرية وأضعفت الصلات العائلية، فشاعت فينا تلك النزعة المادية القاسية، وكثر الصدام وتفاقمت الخلافات وشاعت السلبية بين الآباء والأمهات فخرجت أجيال بأكملها عن السيطرة..!

لا مناص من الاعتراف بأن الأسرة السودانية قبل اندلاع هذه الحرب كانت تشهد لعبة كراسي خطيرة بعد أن غابت القدوة التقليدية وتبدلت الأدوار في بيوت كثيرة فبات من المألوف أن تعول الفتيات اليافعات أسرهن بينما الشباب معظمهم عاطلون..!

أما الآباء والأمهات فقد كان بعصهم يستمرئون الاستسلام لسلطان الحاجة وقلة الحيلة، حتى ما عاد هنالك من يعبأ أو يجرؤ على سؤال العائل الجديد “من أين لك هذا”..!

الأسرة السودانية في سودان ما قبل الحرب كانت تشهد انهيار بعض القيم إلى أن جاءت هذه الحرب وأجهزت على بعضها الآخر. وهي كما ترى حال تستوجب حملةً قومية لإعادة الإعمار!*

munaabuzaid2@gmail.com