حدث دراماتيكي..!

“الدراما هي الحياة بعد إزالة الأحداث المملة” .. ألفريد هتشكوك ..!

بعد اندلاع هذه الحرب ولجوئنا إلى مصر وحلول أكثر من عام على اختلاطنا بشعبها على نحوٍ متواتر – بعد أن كنا نخالطهم لأيام وفي زيارات قصيرة – أدركنا أننا كنا نجهل الكثير عن الشعب الصري الذي كانت الأفلام والمسلسلات بالنسبة لمعظمنا هي المداخل الشائعة لمعرفته..!

وعلى الرغم من أن القاهرة ظلت مركزاً ومصدراً للفكر والأدب والثقافة لكن تبقى السينما والدراما هي الوجوه الأكثر شيوعاً وانتشاراً. وفيهما كان الفقر والثراء والخير والشر – حتى مطلع هذه الألفيه – متلازمات يصير المرء منها وإليها بتطرف دون أن يدخل المنطقة الرمادية الوسطى بين حدود الأبيض والأسود..!

وكانت تلك الزوايا الحادة تقتضي أن تنهمر دموع البطلة عندما تكتشف ثبوت تهمة التهرّب الضريبي على البطل الشرير، فينهار العالم وتتبدد الأحلام لأنّ شريك العمر مجرم خطير بحسب النهج الرسالي المتطرف الذي كانت يتبناه تلك المسلسلات..!

ثلاثون حلقة من الشر المحض والرفض القاطع لزواج ابن الذوات من الجميلة بنت الحارة، ثمّ تحوّل متطرف لمواقف الحماة الشريرة في الحلقة الأخيرة، ونهاية سعيدة تعاقب الثري الفاسد بالفقر أو السجن أو الموت، وتكافئ الفقير الشريف بتحقق أحلام الثراء..!

بينما واقع البشر يقول إنّ الخير والشر والفساد والفضيلة يمتزجان بنسب مختلفة داخل النفوس، وما ذلك التفاوت في سلوك البشر الخطائين إلا نتاج تلك الخلطة الواقعية. وليس صحيحاً أنّ حقيقة الإنسان إمّا خير محض أو شر محض، بل بعض من هذا وشيء من ذاك..!

الكاتب الأسباني خوان جويتيسولو – الذي رفض قبل سنوات جائزة القذافي العالمية للأدباء – انتقد المسلسلات المصرية على خلفية احتفائه بالثورة واتهمها بتخدير ذكاء وحساسية الشعوب العربية، وتغذية خيال الفقراء والمتسولين بحلم الحياة الأفضل على حساب طبيعة الواقع..!

لكن التطرّف الذي هو واقع الشعوب العربية – أبداً – والذي كان لسان حال معظم الشعوب العربية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي قد يغري بقراءة ثانية لحقيقة علاقة الشعب المصري بصناعة السنما والدراما في بلاده..!

الرحالة ابن بطوطة قال عندما زار مصر إنّ عجلة الحياة فيها تدور وتدور ولا يوقفها شيء، وأن “بها ما شئت من عالم وجاهل وجاد وهازل”..!

أما نحن فالحدث الدراماتيكي الذي كان يدخر لنا القدر أن نعيشه على أرض الواقع – والذي يَبُزُّ أكثر الأعمال السينمائية والدرامية المصرية استدراراً لدموعنا – هو اشتعال هذه الحرب وتعاقب فصولها على أحزاننا المُقيمة..!

فما الذي يمكن أن نقول إننا قد لمسناه في أنفسنا وفي معاملاتنا في ظروف هذه الحرب، وما الذي نحتاج أن نحذو فيه حذو هذا الشعب الذي يستضيفنا بعيداً عن انطباعاتنا السابقة..!

الشعب المصري بارع في التعايش بين جدران الشقق مهما ضاقت المساحات، وهو يقدس أكل العيش والسعي للرزق، ويبذل في سبيله كل ممكن، وهو أيضاً يمتاز بالمقدرة على التأقلم مع أصعب الاوضاع والتكيف مع أسوأ الظروف..!

بينما كشفت معظم الحوارات بين الجيران والأصدقاء ومعظم الاستشارات في مجموعات الفيس بوك عدم مقدرة معظم السودانيين على تحمل التكدس بين جدران البيوت الضيقة بسبب ظروف الحرب، وبطء تأقلم معظمهم مع الواقع الذي يفرضه ضيق المساحات وانعدام الخصوصية..!

فكثرت الدراما واستعرت المعارك في علاقات الزواج والنسب والقرابة، وتفاقمت الحروب العاطفية واتسعت رقعة الجراحات الوجدانية..!

وكأن الله قد ابتلانا بهذه الحرب لأسباب عديدة، أولها وأولاها أن نعيد اكتشاف ذواتنا وفهم حقيقة الآخرين من حولنا، وتلمُّس عيوبنا وتحديد مواضع القصور في علاقاتنا ومواطن التقصير في معاملاتنا التي كانت تسترها الحيشان واليوم تتصدر شاشات العرض!.

 

munaabuzaid2@gmail.com