التعايش مع روتين الحرب

الطاهر يونس
قدرة هائلة للحرب علي قلب كل شيء وتغيير مدهش لخصائص الأشياء وتبدّلها من انسجامها المطلق مع الخطوط المستقيمة لليوميات المعتادة الي النقيض.
تسلل يوميات الحرب الي الروتين اليومي للأفراد والجماعات يُحدث خللاً في كيمياء المزاج العام والتغيير الجذري في النظرة الايجابية للحياة وفسح المجال وإعطاء المساحات للإحباط واليأس تتضح تجلياته في كل شيء تكتسي معه الحياة بداكن الألوان.
ليس هذا بمستغرب فالشواهد علي ذلك كثيرة فآفة الحروب لمن سلم من رصاصها وفوهات بنادقها النزوح وهو أقسي ما يلاقيه المرء من ترك دياره وعمله لبلاد تنكر حتي ملامحه وسحنته ليصبح اسيراً لماضي ربما لن يعود فيعيش بقية عمره متقوقعا في ذاكرته وخاطره المكسور .كان (بِيتْ موندريان ) الرسام الهولندي المشهور رائد الفن التجريدي ملأ السمع والبصر وسلطان صوالين بيوت الفن والمعارض في أمستردام وباريس لما حققه من شهرة في هذا اللون من الفن وهو ببساطة سحب البساط من الرسم التصويري وابراز المجسمات كسمة بارزة في القرون التي سبقت القرن العشرين فابتدع وأسس المدرسة التجريدية التي تعتمد علي الخطوط المستقيمة والألوان الهادية كالاصفر والرمادي والأسود والأبيض ليزاحم بها سدنة الفنون في عصره ويتفوق عليهم.عندما نشبت الحرب العالمية الثانية ترك موندريان بيته في مدينة (امسفورت ) الهولندية وانتقل الي باريس ومن ثم الي لندن التي غادرها علي عجل متوجها صوب نيويورك نازحا بعد ان بدأت قنابل الألمان تدك قلب المدينة النابض لينقلب ليلها الصاخب الي خوف ورعب وسهاد.
ترك موندريان بيته ومرسمه وشهرته لينتهي به المطاف مشرداً في شوارع نيويورك يعاني من مرض الالتهاب الرئوي لتنتهي حياته بين المرض والمسغبة يكتشف بعدها بعشرين عاما (مزاد كريستي) كم كان برد نيويورك قاسياً وكم كانت شوارعها التي لم تمنحه الدفيء ضنينة وحامل الجرس يعلن من اعلي المنصة لأصحاب الياقات الأنيقة الذين يغازلون الامنيات في صدر المحفل ان ما يناظرونه ويراودونه من لوحاته التي تركها وراءه كطفل يتيم تقطعت به السبل قد وصل سعرها عشرون مليونا من الدولارات لترتفع الي اكثر من الضعف بعد عشرين عاما أُخرى.
كم هي عجيبة هذه الحياة ومفارقاتها تري من دفع كل هذا المال من الأثرياء وأقام الحفلات ابتهاجا بظفره بهذه الأيقونة ما ضرَّه ان كان اغتناها مقابل قنينة دواء ولقمة خبز حافي وشربة ماء في زمن كانت تعدل لصاحبها كل تلك الرزم من الدولارات البئيسة ولكن هي الأقدار أن تنطفئ شعلة حياته وموهبته في المنافي شريدا وتهوي جدران بيته علي مرسمه في (امسفورت) في غارة المانية لم يدخل آمرها صالات العرض ومزادات الفنون وما اكثرها من عبر.