منزلة الرمق..!

“ولما فصلت العيرُ قال أبوهم إني لأجدُ ريح يوسف لولا أن تُفنِّدون”.. سورة يوسف، الآية ٩٤..!

كنتُ طالبةً جامعية في مطلع العشرين عندما أوفدني والدي – حفظه الله – لإتمام صفقة بيت بمدينة عطبرة، بعد إرسال التوكيل من مقر إقامته بالسعودية. وقد استغرقت المهمة يوماً وليلة حملتُ خلالها حقيبة ظهري وكتابين لتبديد الشعور بالسأم في أثناء الطريق..!

المحامي الذي كان يتوقع شخصاً أكبر سناً قال مخاطباً والدي عبر الهاتف “مرسل لي شافعة”؟. “ما شافعة، دي بت فارسة”، هكذا رد عليه والدي ضاحكاً..!

مواقف كثيرة في هذه الحياة عبرتها بقوة وثبات تكللني تلك الثقة التي تربيتُ عليها في كنف أب صوَّام قوَّام من حفظة كتاب الله، وأم رؤوم معطاءة ومثقفة، فنشأتُ على تحرِّي الانضباط والمسئولية، وهذا لا ينفي عيوبي الكثيرة وإخفاقاتي المتكررة في مدرسة الحياة..!

قبل نحو عشر سنوات وقبل أن تكتمل فرحة والديَّ بدخول أصغر أشقائي – الذي كان طبيباً يافعاً – حياته العملية، شاءت إرادة الله أن يختاره إلي جواره..!

رغم تفتت كبدي ووقوفي على مشارف الإغماء أمسكت يومها بكتفي أمي وقلت لها إن هذه هي اللحظة التي نرجو أن يكتبنا الله عندها من الصابرين. كان مبعث قوتي هو خوفي على والديَّ، وكان ثمن تلك القوة – الذي دفعته لاحقاً – بعض الشعيرات البيضاء وبعض الارتفاع في ضغط الدم..!

بعد اندلاع هذه الحرب صبرتُ على ارتكازات المليشيا في مشاوير الذهاب مع والدتي إلى المستشفى
لجلسات غسيل الكلى، وصبرتُ على شعوري بالحزن والخذلان في بعص أصدقائي السياسيين الذين كنتُ أكن لهم مودةً وتقديراً، لكن مواقفهم في هذه الحرب أفجعتني..!

وصبرتُ على اللجوء إلى مصر براً، وعلى ذل المعابر مع والدين مريضين، وعلى الغربة ومقتضياتها، وعلى سماع أخبار احتلال المليشيا لبيوتنا ونهب ممتلكاتنا، وعلى أخبار القتل والتشريد والخطف والاغتصاب وكل تلك الأهوال، وعلى وفاة أقرباء أعزاء رحلوا عنا في زمن الحرب دون وداع..!

حتى خبر وفاة خالتي المفاجيء الذي مزقني صبرتُ عليه ، وعندما سألني والدي هامساً كيف نخبر أمك؟. قلت له وأنا أشعر بالارض تميد تحت قدمي “نخليها تشرب الشاي وتاخد حبة الضغط بعدين نكلمها”..!

لكنني بعد مرور أكثر من عام على هذه الحرب أشعر أنني قد أنفقت الكثير من رصيد الصبر والقوة. قبل بضعة أيام مرضت أمي وكان والدي أيضاً مريض ولا يقوى على مرافقتي إلى الطبيب..!

وهناك كنت أهرول إلى الصيدلية للحصول على لاصقات الوقاية من الذبحة الصدرية، ولم أجدها، فتركت أمي هناك وركضت إلى صيدلية أخرى وعدت أدراجي شبه راكضة. وكأنني معتمر يرمل بين الصفا والمروة، ثم وضعت الشريط اللاصق على صدر أمي بيد مرتجفة وأنا بين اللهاث والعرق..!

فعلتُ هذا وأنا ألوذ بقوتي في مواجهة الأزمات، لكنني في أثناء الطريق إلى البيت أصبت بانهيار عصبي صامت خبأته عن أمي، لكنني لم أستطع إيقاف دموعي. كنت أشعر بالوحدة والضعف وقلة الحيلة والشتات في بلاد الناس..!

في ذلك اليوم اكتشفتُ – متأخراً جداً – أنني كنتُ طيلة السنة الماضية أعاني من صدمة الحرب. أما لماذا أكتب هذه الكلمات فلأنني قد فرغتُ تواً من قراءة استطلاع مهم للزميل رحمة عبد المنعم – في عدد الأمس من هذه الصحيفة – بشأن تقرير مشترك صادر عن مراكز بحوث نفسية رصدت ارتفاعاً كبيراً في نسبة السودانيين المصابين باضطرابات نفسية بسبب هذه الحرب..!

تاريخ مجتمعنا المحلي مع الوعي بالصدمات النفسية – والتوعية بها والاجتهاد في علاجها – يشهد اليوم مُنعطفاً جديداً بعد مرور أكثر من عام على أهوال هذه الحرب..!

هذه إذن دعوة إلى الرفق بأحوالنا النفسية وتلمس أعراضها ومعالجتها كما نعالج أجسادنا، وها أنا ذي أبدأ بنفسي!.

munaabuzaid2@gmail.com

اقرأ أيضا