حالة كون المرء لاجئاً ..!
“لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها.. ولكن أخلاق الرجال تضيقُ”.. عمرو بن الأهتم..!
عندما اندلعت الحرب في سوريا وتفاقمت أزمة اللجوء لم تفرض حكومة السودان على إخواننا السوريين إجراءات دخول، فامتلأت عمارات وشوارع الخرطوم بأسرهم المحافظة المهذبة، وعاشوا بيننا لسنوات دون أي شعور بالمن أو الأذى..!
وقد استضفنا أيضاً إخواننا العريقين من اليمن السعيد، ومن قبل هؤلاء وأولئك جيراننا الإرتريين والإثيوبيين الذين كانوا وما يزالون أكبر الجاليات التي وفدت إلى السودان وأقامت فيه بسبب الحروب..!
لكن تدفق الأسر السورية إلى الخرطوم في تلك الفترة أدى إلى ارتفاع أسعار إيجارات العقارات وبروز ظاهرة المطالبة بدفع قيمة الإيجار بالدولار، أو ما يعادله بسعر اليوم، عوضاً عن الجنيه. والسبب بطبيعة الحال يكن من جانب إخواننا السوريين بل كان جشع أصحاب العقارات الذين استغلوا ظروفهم لمضاعفة أرباحهم..!
ولأن الجالية السورية محترمة ولطيفة ومنتجة ومجتهدة وبارعة في إنجاح المشاريع الصغيرة – المطاعم والمقاهي على وجه الخصوص – ولأن قانون تشجيع الاستثمار في بلادنا كان مواتياً، ولأن الشعب السوداني بطبيعته لطيف وطيب مع الوافدين، فقد كثرت المطاعم والمقاهي السورية في شوارع الخرطوم..!
حتى المحسنيين في شوارع الخرطوم كسروا قاعدة “الجنس للجنس رحمة” من خلال تمييزهم في المعاملة بين المتسولين السوريين الذين كانوا يجزلون لهم العطاء والمتسولين السودانيين الذين كانوا يتعمدون التقتير عليهم..!
ولأن “في كل وادٍ بنو سعد” أذكر أن إحدى زميلاتي كانت تتذمر من إزعاج أطفال جيرانها السوريين ومن أحذيتهم التي كانت تملأ عتبات الشقق. فأدهشني ذلك وقلت لها إنني قد عاشرتهم لسنوات طويلة في بلاد الغربة، وهم من أكثر الشعوب حرصاً على تهذيب أطفالهم وترتيب ونظافة بيوتهم إلى درجة المبالغة، فقالت لعلها ظروف الحرب إذن وأحوال اللجوء ..!
بتعاقب السنوات اختفت معظم الأسر السورية بمختلف طبقاتها من أحياء الخرطوم، ربما لأن بلادنا بطبيعة مناخها ووضعها الاقتصادي – الذي كان آخذاً في التدهور – كانت بالنسبة للكثيرين منهم دولة إقامة مؤقتة ومعبراً آمناً نحو دول أكثر ازدهاراً..!
ثم دارت الأيام واندلعت حرب أهلية أخرى في بلادنا هذه المرة، وأصبحنا نحن أيضاً لاجئين في دول الجوار، واضطلعت مصر بالدور الأكبر والعبء الأكثر، وفتحت حدودها لنا فتدفقنا إليها بكثرة، لدرجة أن وجودنا قد تسبب في ارتفاع أسعار العقارات السكنية..!
وتذمر مصريون كثر – على طريقة زميلتي تلك – من ارتفاع أسعار العقارات بسبب جشع الملاك، ومن غلاء الأسعار، ومن عشوائية جيرانهم السودانيين ومن ارتفاع أصواتهم، ومن إزعاج أطفالهم ولعبهم في غير أماكن اللعب. وبرزت حملات عديدة في مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بتقنين وجودهم، وكثرت ردود السودانيين على تلك الحملات..!
صحيح أن الطريق من الخرطوم إلى القاهرة براً – عبر ذلك الشريط الأسفلتي المهشم حيناً والمتقطع أحياناً والممتد إلى ما لا نهاية – لم يكن سهلاً، وصحيح أن تكدسنا وانكسارنا بين ازدحام المعابر لم يكن هيناً، لكن علينا أن لا ننسى أن الآخرين غير مجبرين على التعاطف مع معاناتنا، وغير مطالبين بالطبطبة على أوجاعنا..!
لا يوجد مجتمع مثالي في مصر وفي السودان وفي كل العالم، وبعض الناس عندما يحسنون أو يسيئون إلى الآخرين يبدأون بالإحسان أو الإساءة إلى أنفسهم أولاً، لكننا مطالبون باحترام طبائعهم – في كل الأحوال – مهما اختلفت عن طبائعنا، ومراعاة عاداتهم وتقاليدهم، والالتزام بالنظام الاجتماعي الذي يحكمهم، لأننا نحن الذين نقيم في بلادهم…!
الوطنية – أيضاً – تقتضي أن نعكس أفضل الصور عن سلوكنا الجمعي، وأن نجعل إقامتنا المؤقتة في بلاد الناس هادئة ومثمرة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!.