دموع يوسف عبد المنان!
مساء الأحد الماضي، كنت أتفرس الوجوه السمراء داخل بهو فندق الضمان الاجتماعي في بورتسودان التي وصلناها بعد عام من فراقنا للسودان بسبب الحرب اللعينة..
ظللت أتفحص الملامح لا بحثاً عن (معارف)، وإنما من باب التوق للسودانيين في بلد الشمس والسنابل والكبرياء بتقاطعيهم الحانية وعيونهم العسلية، كنت حريصاَ على أن أكحل عيني برؤية كل ما هو سوداني، واستزيد من تأمل القسمات والسحنات الحبيبة التي حرمتنا منها ظروف الحرب، وجعلت الأعين عطشى لامتصاص نكهة كل ما هو موجود أمام ناظريك، الناس، الأشياء، الأماكن، فقد طال شوق الأعين إلى كل ما يمنح (اللوحة ازدواجية القراية ويفتح الضوء بين خطوط الريشة والخط الإضافي الجاي من شبكية الزول البيشاهد) أو كما قال عاطف خيري في (نكر صوتك صداك).
كنت أتجول بنظري وامتص من رحيق الضوء (المسودن) ما يعينني على التزود كذلك في رحلة العودة الطويلة إلى حيث مستقري في مصر التي تأوي السودانيين بحنو ومودة، إلا أن كل (زول) في موضعه ومنبته جميل. كان (شوف العيون) و- بالرغم من أنه (ضنين) – يوثق لتفاصيل الرؤية من زوايا الحنين والاشتياق لكل ما في الوطن، وبالرغم من ذلك كنت أتحاشى أن تقع عيني عليهم، (الرفاق، الأصدقاء، المعارف)، من افتقدناهم بسبب الحرب، ومآسيها التي سرقت منا أعزاء وجعلت (بالكتير يا حليلهم يا حليل الراحوا) هي النشيد الوطني للسودانيين خلال الفترة الماضية.
وأنا أجول ببصري في المكان أملاً في أن (اتش عين الفراق) بضوء رؤية تبدد وحشة الأيام التي قضيناها ما بين الفقد والأسى والدموع، إذ تسمر بصري في وجه طليق و(صباح خير) إعرفه وافتقده وانتظر إشراقه في ذاكرتي كلما استبدّ بي الفراق و(طال الشوق علي)، يا الله إنه يوسف عبد المنان الأخ الكريم والزميل العزيز (كاتب الكرامة) وسادن الصحافة وابن سرحة المهنة البار وعاشقها المتيم، إنه يوسف، (أبو ملاذ) سلطان الزهو بالتحليل والكتابات الماتعة وملك الحكي و(النضم) اليانع على أيام عز الصحافة وصولجانها ومجدها القديم، يا الله إنه يوسف، أذكر إنني ركضت نحوه استعجل لحظة اللقيا، ففتح أحضانه في لحظة (عناق ك صديقين عزيزين) وقد كان لقاؤه وعدد من الزملاء (أغلى من لؤلؤة بضة صيدت من شط البحر الأحمر، نعم كانت مسارات النبض تبرق في قلب اللحظة العبقرية التي تسيدتها الدموع بـ(جعير) لم نجد بداً من إفشائه جهيراً ومتصاعداً حتى شق صمت القاعة والفندق، بينما كان السفير المصري هاني صلاح وجمع من الزملاء يتابع اللحظة التي أبكت الجميع.
كنت أرى في وجه يوسف الذي رسم الحزن على سيمائه خطوطاً من الأسى البائن، مجد السودان الذي ضاع تحت ركام الحزن وغباء الرصاص وقد قضى على كل شئ وترك لنا الذكريات الحبيبة.
ربما كان هو كذلك وقد ترافقنا في بيادر السودان، ومساحاته الشاسعة يلتمس صدى المشاوير الودودة في تجوالنا داخل (الوطن الحدادي مدادي)، نجوب مساحاته دون أن نخشى حتى الذئب على أغنامنا، في بلد بلا جنجويد ولا معارك ولا رصاص أو مسيرات.
تذكرنا في لحظة استدعاء الذكريات حينما كنا نزور دارفور بـ(مرحاتها) وسهولها، ونشق كردفان بخضرتها وحقولها، ونتوزّع بين محبة الوطن الكبير، في الشمالية ونهر النيل والنيل الأبيض وسنار والجزيرة.
رأيت في وجه يوسف (شارع الجرايد) بكل بهائه القديم، وقد تحول إلى كون من جراح بعد أن رحل من رحل ومرض آخرون، وهاجر البعض، وتفرّقنا أيدي سبأ وماتت أمنا الصحافة التي لم نحسن تشييعها حتى الآن ولا استطعنا (رفع الفراش)، ومازلنا نبحث عن أنفاسها بين الأمل والدعاء والأمنيات بأن يعيدها الله مثلما كانت لتجمعنا مرةً أخرى في بيتها العامر..
رأيت السوق العربي وسمعت (اصوات الباعة)، (كمل منك، وقرب تعال يا الحبيب، وكلو بي خمسة)، وقد كان مكتب يوسف يتوسط قلب المدينة..
كانت دموعنا تغسل عناء و وعثاء عام من الحرب والحزن والمشاوير الممتدة في أيام الحسرة والألم والأسف الطويل، لم تكن خوراً أو ضعفاً، فأمثال يوسف لا يجزعون، وقد اختار الدبيبات الرابضة في أحضان كردفان مسقط رأسه ملاذاً حينما يمّمنا شطر القاهرة والعواصم البعيدة، وأصر على العودة لأم درمان مع (بنياته) يعانون الأمرين ويدفعون فاتورة الصمود وسط دوي الدانات وغباء شظاياها التي لا ترحم، كانت الدموع قوة تستنهض ما تبقى فينا من حميم الذكريات، وكان يوسف يتهاوى في أحضان الزملاء من بعدي ليكتب بدموعه مثلما ظل يسطر بمداده قصص البطولة والانحياز لأنسنة الحزن الكبير في زمن الحرب والمأساة والفواجع.
نعم ما أقسى أن تفقد وطناً، شكراً يوسف على لحظات السخاء الإنساني الفاضلة، ونسأل الله أن يحفظك ويكتب لسوداننا الانعتاق والتحرر من نير الجنجويد الظلمة، وأن يهلكهم ويكتب النصر لقواتنا المسلحة، ونلتقي قريباً في رحاب السودان الواسع الجميل، (ونحنا أولاد بلد نقعد نقوم على كيفنا).