“الخُلعة الصاح”..!

” الأشياء التي تَبعث على الضحك ليست مُسلية دائماً، أحياناً تتنكر خيباتُنا في هيئة نُكتة” .. غادة السمان ..!

أول أصوات هذه الحرب في لحظة اندلاعها فاجأتني في أثناء مشاهدة أحد المقاطع الإعلانية الطريفة للسيد “بدر خلعة” على تطبيق “التيك توك”. كانت أمي شبه نائمة كعادتها في الساعة الأخيرة من جلسة غسيل الكلى، وكنت كعادتي أجلس بجانبها وأحاول تبديد الانتظار بالقراءة أو المشاهدة على هاتفي المحمول..!

عندما دوى صوت الرصاص كان السيد “بدر خلعة” قد فرغ لتوه من الحديث عن “العزة الصاح” و”الطقة الصاح” في إعلان لمطعم شعبي، قبل أن يشير نحو الكاميرا بمفتاح سيارته وهو يحدثنا عن روعة صوت “قونة” صاعدة كان في ضيافتها عبر المقطع الذي يليه..!

وهكذا انتقلنا في دقائق معدودات من التسلية بمشاهدة مقاطع “بدر خلعة” إلى “الخلعة الجد”، “الخلعة الصاح” التي أدخلتها في نفوسنا مفاجأة اندلاع حرب. وعلى الرغم من كل الأهوال التي كنا نصادفها في مشاوير المستشفى – من وإلى جلسات الغسيل – صمدنا لأسابيع قبل أن يخرجنا من البيت والوطن “خروج” المستشفيات نفسها من الخدمة..!

لعل من الأفكار التي تصلح مبحثاً لرسالة ماجستير في إحدى جامعات سودان ما بعد الحرب “أسباب ومظاهر ومآلات تفاقم معدلات الفجور في سلوك مليشيا الدعم السريع تجاه المدنيين على طريقة المتواليات العددية”..!

من مرحلة الأسابيع الأولى للحرب التي ملأوا فيها الشوارع، مروراً باستيلائهم على بيوت المواطنين في الخرطوم ونهب سياراتهم وممتلكاتهم بعد طردهم منها، وليس انتهاءاً بمضاعفة وتيرة الجرائم والانتهاكات والقتل والسبي والنهب والسلب في الجزيرة وفي دارفور..!

الوجه الآخر لهذا التفاقم في فجور المليشيا هو تفاقم معاناة النازحين واللاجئين من المرض إلى الفقر والتشريد، بعد أن فقد السواد الأعظم من السودانيين أعمالهم ووظائفهم، فلجأ معظم الرجال إلى التجارة البدائية ولجأت نساء كثيرات نازحات ولاجئات إلى بيع الطعام لإعالة أسرهن..!

قبل أيام فاز تحقيق صحفي استقصائي – عن انتهاكات الحرب في السودان – قام به الزميلان “الطيب صديق” و”خالد عبد العزيز” بإحدى الجوائز العالمية الرفيعة في مجال الصحافة، “ألف مبروك”، وقد أسعدني أن تتصدر الصورة التي التقطت لهما وهما يتسلمان الجائزة – بمدينة “نيويورك” نيابةً عن وكالة “رويترز” – الصفحات الإخبارية وصفحات الفيس بوك ذات الصلة..!

ولكن، على النقيض تماماً، تصدرت على ذات الصفحات والمواقع ذات الصلة، وفي ذات الفترة الزمنية، صور لزملاء صحفيين آخرين قاموا بنشرها على صفحاتهم الخاصة بموقع الفيس بوك، من مقار أعمالهم الجديدة بمناطق نزوحهم في سودان الحرب..!

المهن الجديدة لأولئك الزملاء تراوحت بين الوقوف في أحد أكشاك بيع الرصيد، والجلوس على فرشة عجور وطماطم في سوق الخضار، ورمي عجين الطعمية في الزيت قبل عرضها للبيع..!

إنها تداعيات ذات الحرب التي رفعت زميلاً صحفياً استقصائياً وصنعت منه فائزاً في مقام الفاعل “عن جدارة واستحقاق”، ونصبت زميلاً صحفياً آخر بأن جعلت منه مفعولاً به..!

ولا شك أن الصحفي في كلا الحالين مبتدأٌ في مهنته وبين أهله، هو الصحفي ذاته وإن اختلفت حاله في كلا الخبرين. يكفي كلاهما فخراً أن الرزق الحلال – بعمل اليمين وعرق الجبين – هو “المفعول لأجله” في كلا الحالين..!

على صعيد آخر لاحظتُ أن السيد “بدر خلعة” – هو الآخر – قد نقل نشاطه إلى إحدي دول الخليج التي لجأ إليها بعد الحرب..!

تلك هي أحوال الناس في أوقات المِنَح الكبرى التي يُلبسها الله أثواب المِحَن، ليعلم الذين جاهدوا منا ويعلم الصابرين!.