مذكرة (الأمة).. النيران من داخل الصندوق
للعطر افتضاح
د. مزمل أبو القاسم
مذكرة (الأمة).. النيران من داخل الصندوق
* بحسابات الزمن فإن تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) ما زالت غضة الإهاب، حديثة العهد بالساحة السياسية، لم تُنبِت أسنان اللبن بعد، لأن عمرها لم يكمل أربعة أشهر، ومع ذلك بادر حزب الأمة القومي (أكبر أحزاب التنسيقية قاطبة) بانتقادها، وأعلن رغبته في تقويم اعوجاجها، وإصلاح حالها وهي ما تزال في المهد (رضيعةً)، فما مآخذه عليها؟
* نذكر أن كثيرين عابوا على تقدم (ومن قبلها قحت) عدم حيادها في الحرب الحالية، واتهموها بموالاة متمردي الدعم السريع، ومعاداة القوات المسلحة، وكان المنتقدون يتهمون (تقدم) بأنها تسير مع المتمردين بوقع الحافر على الحافر، فإذا أنكروا أنهم بدأوا الحرب أنكرت معهم، وإذا اتهموا غيرهم بإشعال نيرانها تبنت روايتهم، واجتهدت لترويجها، وإذا طعنوا في قومية الجيش طعنت معهم، وإذا اتهموا الجيش بإفشال مفاوضات جدة تهمته معهم.. وإذا استنفر المتمردون القبائل وحشدوا المقاتلين منها صمتت، وإذا استنفر الجيش شعبه على أساس قومي صاحت وولولت واتهمته بالسعي لتوسيع نطاق الحرب وتحويلها إلى أهلية!
* لا يرفع أنصار (تقدم) شعار (لا للحرب) إلا في وجوه مساندي الجيش ويطلقون عليهم مسمى (بلابسة)، ولا يفعلون المثل مع مساندي الدعم السريع، مهما جاهروا بالبلبسة وتمادوا في الدعوة لتوسيع رقعة الحرب (الربيع نموذجاً)، كما ظلت تقدم تلصق تهمة رفض السلام بالجيش وحده، حتى بعد أن تملص المتمردون من كل الالتزامات التي وقعوها عليها في منبر جدة، ووسعوا نطاق حربهم على المواطنين، وفعلوا الأفاعيل بالجزيرة وأهلها المنكوبين!
* حتى في الحديث عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة خلال الحرب الحالية نجد المتحدثين باسم (تقدم) يركزون على رصد التجاوزات المنسوبة للجيش، ويجتهدون في اتهامه وتجريمه ورميه بكل شنيع محاولين وضعه مع مليشيات الدعم السريع في مرتبة واحدة، كي يثبتوا أنه لا يقل عنها تجاوزاً وإجراماً.. كما أنهم قلما يشيرون إلى جرائم وانتهاكات المتمردين، وبعد ذلك كله كانوا يزعمون أنهم محايدون، وينفون عن أنفسهم تهمة معاداة الجيش وموالاة التمرد!
* يتمادون في الإنكار مع أن لسان حالهم يفضحهم، ومن تابعوا الحلقة الحوارية التي أجرتها قناة الجزيرة مباشر يوم أمس الأول واستضافت فيها مبارك أردول والدكتور علاء الدين نُقد (أحد المتحدثين باسم تقدم) لاحظوا من فوره مدى حُنق علاء نقد على الجيش، ورصدوا حرصه على إدانته بأي نهج، واستهجانه لأي كلمة إيجابية صدرت من أردول بحق الجيش.. استهجاناً يتخطى الحديث باللسان إلى لغة الجسد.
* ذاك عن علاء نقد، المتحدث باسم تقدم والذي سبق للاستخبارات العسكرية أن اعتقلته وحققت معه حول شبهات تعاونه مع متمردي الدعم السريع في القطاع الصحي، ولو عطفت على رشا عوض أو جعفر حسن وبقية المتحدثين باسم (تقدم) فستجدهم أوفر انحيازاً لمتمردي الدعم السريع، وأشد بُغضاً وعداوةً للجيش.. ومع ذلك يدعون أنهم محايدون.. لذلك كتبنا لهم قبلاً (حيادكم عَينَة)!
* باختصار كان الانحياز وما يزال بائناً بل فاضحاً وموغلاً في الوضوح الممزوج بالغباء والغفلة، بحيث يصعب نفيه ويستحيل إنكاره، ومع ذلك ظلوا ينكرونه حتى أثبته عليهم حزب الأمة القومي بمذكرة سارت بذكرها الركبان!
* أتتهم النيران هذه المرة من داخل الصندوق، ومن أكبر شريك، حيث عاب حزب الأمة على تقدم تورطها في توقيع اتفاق سياسي (إعلان أديس) مع أحد طرفي النزاع، وذكر أن تلك الخطوة (تُجانب الأساس الصحيح لحل النزاعات)، كما رماها بتهمة (غياب الحياد الإيجابي والانحياز الإعلامي لأحد طرفي الحرب)، وبالطبع لسنا بحاجة إلى تسمية (الطرف) الذي يعنيه حزب الأمة، لأنه أوضح من الشمس في رابعة النهار!
* مضت مذكرة حزب الأمة القومي أبعد من ذلك وأشارت إلى شبهات العمالة والتبعية للأجنبي التي لاحقت (تقدم)، حيث ذكرت في إطار رصدها لسلبيات التنسيقية ما يلي: (الدور الأجنبي لكونه ميسراً وممولاً للقوى المدنية لمساعدة أنفسهم).. وعلى الرغم من محاولات دغمسة الصياغة إلا أن الاتهام بالعمالة وقبول المال المشبوه من جهات أجنبية يظل واضحاً بلا مراء.. ولا يحتمل الإنكار!
* باختصار أثبت حزب الأمة القومي أن الاتهامات التي لاحقت (تقدم) لم تنطلق من فراغ، بدليل أنها صدرت عن (شاهد من أهلها)، ممثلاً في أكبر أحزابها وليس من كوز أو بلبوس.. ويبقى السؤال قائماً: هل برّأ حزب الأمة نفسه من التهم ذاتها؟
* هل غسلت بعض قياداته أياديها من أدران الانحياز للدعامة المجرمين وتوقفت عن محاولات التغطية على جرائمهم وإنكار انتهاكاتهم (بيان تزعم الشهير مثالاً)، وهل كفت تلكم القيادات عن تلقي التمويل الأجنبي رفقة تقدم؟
* المثير للسخرية أن (تقدم) الرضيعة ذات الشهور الأربعة.. المتهومة بالفساد السياسي والمدموغة بالانحياز للمتمردين والتغطية على جرائمهم وبتلقي المال المشبوه من دوائر أجنبية تريد أن تصلح وتهيكل مؤسسة قومية راسخة عمرها مائة عام!!
* صحِي.. الجمل ما بشوف عوجة رقبتو!
* على العموم وفي الحد الأدنى يمكن التعامل معه هذه المذكرة على أنها تشكل بداية مرحلة التعافي لحزب الأمة القومي، المُطالب بل والملزم بأن يتبنى مواقفاً تليق بتاريخه الناصع ورصيده السياسي الكبير وإرثه الوطني الباذخ.. ذلك الإرث الذي تلاعب به وشوهه فضل الله برمة ناصر والواثق البرير والصديق وزينب الصادق وغيرهم ممن حاولوا أن يجعلوا من أكبر أحزاب السودان تابعاً ذليلاً وحليفاً رخيصاً للجنجويد القتلة وحلفائهم من أحزاب الفكة وعَبَدة الدولار وعملاء السفارات.. فهل صحَّت العودة أم أنها مجرد مناورة سياسية لحظية يعود بعدها الحزب العريق إلى الارتماء من جديد.. في أحضان (تقزُّم) العليلة العميلة.. والجنجويد؟