في ذكرى وفاتهما.. وردي وإسماعيل حسن .. إرادة المولى رادتني وبقيت غناي

بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظفي هذه الأيام تمر ذكرى وفاة هرمين كبيرين في خريطة فن الغناء السوداني والعربي والافريقي، وهما الفنان محمد وردي والشاعر إسماعيل حسن، حيث تتكاثر حالات الإبداع النادر بينهما والتواجد بكثافة انتاج وجودة ومتابعة منذ بواكير ظهورهما حتى بعد سنوات طوال من وفاتهما. ورسالة أبعثها بهذه المناسبة إلى العزيز صاحب الإهتمام المكثف بتفاصيل تفاصيل الأحداث والمواقف السودانية ذات الدلالات التاريخية الأخ مهدي فضل المولى. وإليه أقول: (فبراير شهر ذو أشجان لنا، حيث شهد رحيل نجمي الغناء العذب إسماعيل حسن ومحمد وردي. ومن عجب المصادفات أن رحيلهما كان بفارق يوم في تاريخ الشهر وبفارق ثلاثون عاما بالتمام والكمال).× استديو الإذاعة:شهد العام 1956م ظهور الفنان محمد وردي كظاهرة فنية جديدة في خضم أساطين الطرب ورواد المدرسة الوترية (إبراهيم الكاشف، عثمان حسين، أحمد المصطفى، حسن عطية، حسن سليمان الهاوي والعملاق التاج مصطفى وغيرهم. وربما أستشعر محمد وردي صعوبة وجوده وسط هذا البحر الزاخر فنا وألحانا، تابعها ورددها كل السودان من حناجر العمالقة الأوائل سالفي الذكر. وبتاريخ الاربعاء 17 يوليو 1957 دلف محمد وردي لأستديو الإذاعة الوحيد ليتغنى ولأول مرة عبر أثير الإذاعة السودانية من مبناها القديم ببيت الأمانة فكانت (يا طير يا طاير) التي تغنى بها قبل لقائه بشاعرها إسماعيل حسن، وهي من نتاج علاقة ربطته بزميله الموسيقار الملحن علي ميرغني من خلال إلتصاقهما ببعضهما البعض كمعلمين بالمدارس الأولية بمنطقة الديوم والسجانة، وهي من ألحان الملحن خليل أحمد الذي هو الآخر من سكان السجانة. بدأت العلاقة فعليا بين الاثنين في العام 1957 فظلت وما زالت نتاجا باهرا للإبداع والكلمة الخالدة واللحن الذي سيظل محفورا وبكثافة في خارطة الغناء السوداني.× الأوائل من الأغاني:في أكتوبر من العام 1957 أتت ثاني أغنيات وردي التي كانت الفتح الحقيقي لكم منها فيما بعد وهي (القمر بوبا) التي استخدم فيها وردي الكورس النسائي على غرار (يا طير يا طاير)، فلاقت رواجا جعل العام 1957 وقبل نهايته في ديسمبر عاما لإنطلاقته الصاروخية بفضل كلمات إسماعيل حسن. وتقول وثائق الإذاعة السودانية عبر مكتبتها الصوتية أن تاريخ 19 ديسمبر 1957 شهد تسجيل أغنية (الليلة يا سمراء) ليصبح العام 1957 عام الإنطلاقة ليس لوردي بل لإسماعيل حسن بأغنيات غير تلك التي كتبها من قبل لفنانين آخرين ومنها بالطبع أشهر أغنيتين كتبهما قبل ظهور وردي وهما (ظبية الغزلان) لأحمد المصطفى (يا ظبية سارحة وين مع الغزلان في الوديان). والأخرى كانت غير معلومة للكثيرين وللأسف سقطت من الذاكرة.× الدرجة الأولى:سنتان وينقضي عقد الخمسينات الذي ظهر فيه وردي ليصبح محمد وردي وفي أقل من ثلاثة سنوات يملك عشرة أغنيات كان لإسماعيل حسن منها خمس أغنيات وهو السبب الرئيسي الذي جعل وصوله للدرجة الأولى الفنية تجاوزا للدرجة الرابعة أمرا حتميا فأصبح في خمسة أشهر في درجة واحدة مع إبراهيم الكاشف والتاج مصطفى وحسن عطية وعثمان حسين وحسن عطية وعثمان الشفيع.× عقد السيتينيات والشلال اللحني لوردي:شكل عقد الستينيات تنافسا فنيا ملحوظا بين الثلاثة الذين ظهروا في نهاية الخمسينيات وهم (صلاح مصطفى وعبد الكريم الكابلي ومحمد وردي). وللعلم لم يكن التنافس بينهما في الأداء الغنائي بل كان في تلك الألحان التي امتازوا بها، حيث يلاحظ أنهم ثلاثتهم ملحنين من طراز نادر. ليصبح محمد وردي ملحنا صاحب بصمة واضحة في تاريخ الغناء السوداني فكانت الروائع (الاسماعيلية) والتي بدأت في فبراير 1960 بأغنية (نور العين) وتلتها (الحنين يا فؤادي). وساهمت عوامل عديدة في نجاح هذه الثنائية الخالدة وهي:1/ قوة صوت وردي ووضوح مخارج الكلمات والحروف، وهو ما كان لمهنة التعليم التي امتهنها كمعلم منذ العام 1952 وحتى منتصف الستينيات، حين تفرغ تماما لفنه وألحانه وأداء أجمل غنائيات الوطن.2/ كتابة إسماعيل حسن لكلمات تناسبت مع قدرات وردي اللحنية والصوتية، وهو ما يجعل النظر للمؤثرات البيئية للاثنين سببا في ذلك. فالإثنين من منطقة تغلب عليها ألفاظ العربية الواضحة، وذات النطق السليم لها، رغما عن تأثر وردي بلغة أهله (الرطانة) إلا أنه كما أسلفنا له من جودة المخارج اللغوية ما ظهر في غنائه.3/ حداثة كلمات إسماعيل حسن التي انتشرت في تلك الفترة بمفردات جديدة مثل (كدة أسأل قلبك عن حالي أسألو) أو (خاف من الله) أو (لو حنيت لعهد الشوق أجيب من وين عمر تاني) أو (يا سلام منك أنا اااه يا سلام). وربما نضيف عاملا آخرا ساهم في هذا النجاح الثنائي وهو استعداد وردي لمشروعه الفني بالعمل علي الأداء اللحني والأدائي الجاد الذي أوصله لهذه المرحلة.× عقد الستينيات و(8) أغانيات:بدأ عقد الستينيات بين وردي وإسماعيل حسن بأغنية (صدفة) واستمر حتى العام 1968م، لتأتي (نور العين، والمستحيل، ولو بهمسة، وخاف من الله) وغيرهم من درر وكنوز الغناء الثنائي التي كانت عنوانا لثنائية خالدة.× بدايات الخلاف:من الواضح أن عقد الستينيات كان عقدا من عقود الإنجاز السوداني في مناحي عديدة ومنها بالطبع الغناء السوداني وهو ما جعل وردي يلجأ للشعراء الآخرين حتى يصبح في مصاف اثنين من أبناء جيله كانا في سباق وتنافس لحني وأدائي شاهق، وهما صلاح مصطفى وعبد الكريم الكابلي. فكان أن تغنى وردي بإثنتين من روائع غنائه لشاعرين آخرين. وشكلت الأغنيتان رواجا بل ظلتا في صدارة أغنياته زمنا ليس بالقصير وهما (الطير المهاجر) للشاعر صلاح أحمد إبراهيم  و(الحبيب العائد) للشاعر صديق مدثر.× رحلة بيروت:تبدأ حادثة الخلاف المكتومة بينهما حين تغنى وردي بالأغنيتين في العاصمة اللبنانية بيروت في رحلة فنية خالدة سنتطرق إليها فيما بعد وهي الرحلة الفنية التي إلتقى فيها وردي بالفنانة فيروز وكان حضورا رئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب وتاريخها مايو 1968م. وللعلم تغنى وردي بالأغنيتين في الحفل الرئيسي دون سواهما. وضجت الصحافة الفنية بأخبار الرحلة الفنية وإمتلأت صفحات الفنون بصحف الأيام والسودان الجديد والرأي العام بأخبار الرحلة الفنية، فكان الأمر ذا مغضبة بل تساؤلا لإسماعيل حسن الذي رأى نفسه مشاركا بفعالية في نجاح وردي. مرت الحادثة دون اعلان للخلاف ليأتي العام 1971 وفي أكتوبر منه كان اعلان تنظيم الإتحاد الاشتراكي السوداني الذي إنضم إليه بفعالية إسماعيل حسن مع وجود وردي معتقلا سياسيا على خلفية الإنقلاب الدموي في يوليو 1971م. ظهر الخلاف بينهما واضحا غير مخفيا، بل ساهمت عوامل سياسية واضحة في تأجيجه.× تسامح ورحيل:ومن عجب أن التسامح والعودة للعلاقة القديمة بين وردي وإسماعيل لم يتم إلا في يوم 2 فبراير 1982م في تلك الاحتفالية التي نظمها طلاب بجامعة الخرطوم، ليرحل إسماعيل حسن بتاريخ 18 فبراير 1982م مخلفا كلمات شاهقات الإنتشار والخلود لوردي الذي توفي ايضا في يوم 18 فبراير 2012م، وغيره من الفنانين ومنهم محمد ميرغني (سمحة الصيدة)، (وعذارى الحي) ومنى الخير (الزارعنو في شمبات) وسيد خليفة (أزيكم كيفنكم) وعثمان حسين (عارفنو حبببي) وغيرها.نقلاً عن ألوان