في سودان ما قبل الحرب..!
“كل ما هنالك أنك تُعطي نفسك مكانةً زائفة، من يَهتم لأمرِك، كم من أمثالك مَرُّوا في هذه الدنيا” ..عزيز نيسين ..!
بعد مرور عام وبضعة أشهر، تُرى غيَّرتنا هذه الحرب حقاً، فهذبت نفوسنا وشذبت مواقفنا، وحررت مواقفنا من حُمق البوبار وسذاجة المظاهر، وحررت أفعالنا من سجون الحرص على المدح والخوف من الأحكام..؟
ما الذي يشعر به والدان يَزُفاَّن طفلهما “خريج الروضة” بالتهليل والزغاريد، وأي مرحلةِ كبرى تلك التي يحتفلان باجتيازها وهما يرقصان بالأكتاف ويهزان بالنواصي الأقدام..؟
أي جنٍّ ذلك الذي يتلَبَّس رجلاً يتقافز بعمامته وهو يلقي برزمة “خمسينات” في حجر غنَّاية، ليس لشيء سوى أنها قالت وهي تنقر بأصابعها على أطراف دلوكتها “سمحة الهيبة فوق مختار”. فلا هو أصبح مختاراً ولا هي أقلعت عن التغني بهيبة المختار “سيد الاسم” وهي تغازل جيب مُختالٍ سواه ..!
إنه ذات السبب الذي أدركَتهُ الحكَّامات جيداً منذ قديم الزمن فأشعلن حروباً وأطفأن أخرى وهن ينقرن بمهارة على ذلك الوَتَر الحساس، وتر الحاجة إلى البطولة، ذلك الشوق الذي يبقى كامناً داخل كل إنسان ثم “يتاوق” أحياناً، لكنه عند شعبنا في هذا السودان نشط، و”زيادة شوية” ..!
ذات الوالدان يودعان مرحلة “احتفال الروضة” ثم يخوضان رحلة التوتر والقلق على مستقل أكاديمي لطفل صغير ما يزال علمه عند الله، فيسرفان في التشويش على طفولته البريئة بصنوف النصح والتعنيف والترغيب والتهريب..!
ويثقلان كاهله الغض بمسئوليات جسيمة مفادها أن يجتهد دوماً حتى يكون من أوائل المتفوقين الفائزين بمقاعد الصدارة في كل شأن ..!
حتى فقد الأطفال في مجتمعنا شيئاً من براءتهم وتهدلت أكتافهم الصغيرة بثقل الحقائب وثقل المسئولية، بعد أن صار الآباء يكلون إلى صغارهم مهمة تحقيق ما لم ينجحوا في تحقيقه ..!
حتى إذا اكتمل المشوار بيوم التخريج الجامعي العظيم، زغردت الأمهات وعرض الآباء على أهازيج تلك البطولة ..!
أما أصحاب العمم والملافح الذين يمطرون “الغنَّايات” بالأوراق النقدية في مواسم الأفراح التي يكثر فيها التغني بهيبة مختار، فهم ذاتهم أصحاب “العصايات” الذين يرفعونها تهليلاً وتكبيراً مع معزوفة “دخولها وصقيرها حام”..!
ولئن سألتني عن الفتوحات السياسية أو المعارك الاقتصادية التي خاضها هؤلاء الراقصين في سبيل هذا الوطن ولأجل هذا الشعب فما المسئول عنها بأعلم من السائل. ناهيك عن أصحاب البطولات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي والتناحر السياسي ..!
البطولة ليست ساعةً نُسلِّم فيها أنفسنا لجموح أخيلتنا، نحن – ببساطة – لا نقرر أن نصبح أبطالاً. بل تلقي بنا هذه الحياة أمام اختبارات في ثوب خيارات، كما فعلت بنا تداعيات اشتعال هذه الحرب..!
الكلام يبقى كلاماً، بينما كل البطولات الإنسانية أتت كنتائج راجحة لعظمة الأفعال الدالَّة على الفاعلين ..!
munaabuzaid2@gmail.com