التضخم.. حربٌ من نوع اخر

تقرير: إسماعيل جبريل تيسو..

أرتفع معدل التضخم في السودان ووصل إلى 136.67% في النصف الأول من العام 2024م، وقال الجهاز المركزي للإحصاء إن معدل التغير السنوي (التضخم) للنصف الأول من العام الحالي ، شهد ارتفاعاً سجل 136.67%٪، مقارنة ب66.62%، في العام 2023م، و138.81% في العام 2022م، وبرر جهاز الإحصاء المركزي في السودان هذا الارتفاع، إلى النمو المضطرد في المستوى العام للأسعار والذي ضرب البلاد في الآونة الأخيرة مما انعكس سلباً على زيادة معدل التضخم.
أرقام قياسية:
وضرب شهر يونيو 2024م رقماً قياسياً سجلت فيه معدلات التضخم أعلى نسبة في الارتفاع وصلت إلى 158.16٪، حيث وصل في المناطق الحضرية إلى 155،89%، وفي المناطق الريفية إلى 159.43٪، وعزا الجهاز المركزي للإحصاء ارتفاع معدلات التضخم في شهر يونيو إلى الارتفاع الذي صاحب الإيجارات السكنية خلال النصف الأول من العام 2024م، ووصولها إلى أعلى مستوى في الشهر المعني.
ولايات متأثرة:
وكشف الجهاز المركزي للإحصاء في السودان عن تسجيل ثماني ولايات معدلاً أعلى من متوسط النصف الأول من العام الحالي ، أبرزها الولاية الشمالية، ثم ولاية كسلا، وولاية جنوب كردفان، فيما سجلت ولاية الخرطوم أدنى متوسط معدلات للتضخم بين ولايات البلاد، ويعود ذلك إلى انحسار عدد السكان في العاصمة الخرطوم بسبب نزوح ولجوء الكثير منهم إلى ولايات آمنة، أو إلى دول مجاورة، حيث دفعت الحرب التي أشعلت فتيلها ميليشيا الدعم السريع في الخامس عشر من أبريل 2023م، أكثر من 8.5 مليون شخص في السودان إلى النزوح عن ديارهم، في موجة نزوح اُعتبرت الأكبر التي يشهدها العالم حالياً.
تداعيات اقتصادية:
وتأثرت الكثير من القطاعات الاقتصادية في السودان بتداعيات الحرب التي عطّلت صادرات النفط المهمة لدولة جنوب السودان، وساهمت بقدر متعاظم في تدهور بنية الاقتصاد المنهار أصلاً بفقدان عوائد تصدير النفط، وضياع الكثير من حصائل صادر الذهب بسبب عمليات التهريب، وصادر بعض المنتجات السودانية كالصمغ العربي والقطن والسمسم وغيرها، يأتي ذلك في وقت شهد فيه الجنيه السوداني ( العملة الوطنية)، تدهوراً مريعاً ومخيفاً بلغ مستويات قياسية وتأريخية، أمام العملات الأجنبية، مما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، والوقود.
توقعات التضخم:
ويشير مصطلح التضخم إلى الارتفاع في المستوى العام للأسعار، ولا يحدث التضخم إلا عند زيادة أسعار العديد من السلع والخدمات مثل العقارات، والسيارات والوقود، والمواد الغذائية، وغيرها من المواد الضرورية للمواطنين، ويشترط أن يكون الارتفاع كبيراً، ويصعب على الجهات المختصة إيقاف التضخم بمجرد حدوثه، ذلك أن ارتفاع الأسعار، ينعكس سلباً على مطالبة العاملين في الدولة بزيادة الرواتب والأجور، وهو أمرٌ يؤدي إلى الدخول في دوامة متلاطمة من الأجور والأسعار، لذلك يوصي مراقبون اقتصاديون بضرورة أن ترفع السلطات المختصة قرني استشعارها لقراءة توقعات التضخم، لاتخاذ مواقفها حيال هذه التوقعات.
اقتصاد حرب:
وتحول الاقتصاد السوداني منذ الخامس عشر من أبريل 2023م إلى اقتصاد حرب، حيث وضعت هذه الحرب الاقتصاد الوطني على شفا حفرة من انهيار، حاولت معه السلطات المختصة وبذلت جهوداً متعاظمة للحفاظ على ماء وجه الاقتصاد، بتأمين الممكن من المواد الأساسية والضروريات الاستهلاكية كالمواد الغذائية والأدوية والوقود، واعتبرتها أولويات ملحة في وقت ظلت فيه الكثير من الأنشطة في القطاعات التجارية والإنتاجية في تراجع مضطرد.
انفلات العملات:
وتأذى جسد الاقتصاد السوداني من حمى الانفلات الجنوني للعملات الأجنبية التي استأسدت على الجنيه السوداني وضربته في مقتل، فبات يتهاوى كأعجاز نخل خاوية، وبشكل متسارع أمام الدولار الأمريكي، الذي تعدّى لأول مرة في تأريخ سوق الصرف، حاجز 2300 جنيه في السوق الموازي، الأمر الذي جعل سفينة القوى الشرائية تترنح أمام ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية كالأدوية والمواد الغذائية والوقود، فوقع المواطن السوداني ضحية هذه الأوضاع، وخاصة ذوي الدخول المحدودة، والمعتمدين على المهن ذات الدخل اليومي والتي توقفت أكثريتها بفعل الحرب.
أسباب التضخم:
ويطرح المحلل الاقتصادي دكتور هيثم فتحي عدة أسباب قال إنها كانت وراء ارتفاع معدل التضخم في السودان خلال فترة الحرب، ومضى في حديثه للكرامة إلى تفنيدها متناولاً سياسة التمويل بالعجز لتعويض العجز الحاصل في الإيرادات المحلية، ثم هجرة الأموال إلى الخارج، ثم عمليات التدمير التي طالت الممتلكات العامة والخاصة، إضافة إلى انخفاض إيرادات الصادر، وزيادة المضاربة في العملات الأجنبية واستنزاف الاحتياطي منها، ونوه دكتور فتحي إلى زيادة العرض النقدي، وارتفاع سعر الصرف، وهو أمر أدى إلى خسارة معظم السودانيين إن لم يكن جمعيهم لأموالهم ومدخراتهم خاصة تلك المودعة في المصارف والتي قال إن قيمتها النقدية انخفضت بنحو 7 أضعاف مقابل العملات الأجنبية، منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023م.
محركات التضخم:
ويمضي دكتور هيثم فتحي في تحليله لحال الاقتصاد الوطني في ظل الحرب، ويقول إن تشوّه بنية آلية التسعير في ظل الحرب قد أفرزت مستويات عالية وغير منطقية من الأسعار، وترافقت مع نسب تضخم عالية مصحوبة بمظاهر ركود في بعض القطاعات والأنشطة كمؤشر على ظاهرة الركود التضخمي المركبة، ونوه دكتور فتحي في حديثه للكرامة إلى محرِّكين أساسيين للتضخم في السودان، قال إن الأول منهما متعلق بالسياسة المالية والنقدية، مبيناً أن عدم تناغم السياستين المالية والنقدية، أدى إلى فجوة حقيقية بين مستوى الدخل للفرد، والأسعار حيث حدثت ارتفاعات كبيرة جداً على مستوى معدلات التضخم، وأكد أنه كلما تم تحقيق حالة من التناغم بين السياستين المالية والنقدية، كلما كانت هناك معالجات تذهب باتجاه تخفيض معدلات التضخم، وأما المحرك الثاني للتضخم فيصفه دكتور فتحي بالمحرِّك الديناميكي الذي قال إنه يعتمد على سعر الصرف للجنيه السوداني وتغيرات أسعاره، منوهاً إلى الاستقرار الذي كان يلازم الجنيه في بواكير الحرب، قبل أن يتغير بشكل تدريجي، ثم جمح وانفلت بشكل متسارع ومجنون مما أدى إلى حدوث ارتفاعات وضغوطاً تضخمية، سجل بموجبها أرقاماً مرتفعة في معدلات التضخم.
إجراءات صارمة:
في ظل الحرب هنالك آليات آنية يجب أن تنفذ على المدى القصير من أجل كبح جماح انفلات العملات الأجنبية في مقابل العملة الوطنية ( الجنيه السوداني) هكذا بدأت دكتورة نجلاء بشير بخاري الباحثة والمحاضرة بالجامعات السودانية، إفادتها بشأن سبل محاصرة التضخم، وشددت دكتورة نجلاء في حديثها للكرامة على ضرورة أن تتخذ السلطات المختصة ضوابط صارمة وسريعة لإيقاف غول السوق السوداء حتى لو أدى الأمر إلى تنفيذ إجراءات أمنية وفرض عقوبات مشددة على التجار، وقالت إن الظروف التي فرضتها الحرب تتطلب إجراء بعض التعديلات المتعلقة بسياسة تحرير الأسعار من خلال تحديد سقف أعلى للسلع والمواد الضرورية، ونادت دكتورة نجلاء بخاري بضرورة توحيد القنوات التي تمكّن من الحصول على العملات الأجنبية، ومحاولة وضع سياسات نقدية موحدة تهدف إلى توحيد سعر الصرف ما بين السوق الرسمي والسوق الموازي داخلياً وخارجياً، مع أهمية إحكام الرقابة على الأسواق المالية ومنع التداول غير القانوني للعملات، ومراقبة تحويلات العملات، والسعي لتوفير سيولة كافية لتلبية الطلب، سواءً باستنفار الدول الشقيقة والصديقة، أو عبر الاستثمار في الصادرات، وخاصة الموارد المعدنية بتقديم المزيد من التسهيلات لتصدير الذهب، وتحصيل عوائده.
تفكير خارج الصندوق:
وشددت دكتورة نجلاء بشير بخاري الباحثة والمحاضرة بالجامعات السودانية، إلى أهمية تقليل الإنفاق الحكومي، والاجتهاد قدر الإمكان بأن يكون الصرف داخل حدود الميزانية، رغم صعوبة ذلك في ظل الظروف الاستثنائية التي فرضتها حرب الخامس عشر من أبريل 2023م، وطالبت دكتورة نجلاء الحكومة بالتفكير خارج الصندوق من خلال العمل على الاهتمام بالاستثمار في الولايات الآمنة، من خلال تمكين المزارعين عبر مجتمعاتهم المحلية لإنجاح الموسم الزراعي، وزيادة مشروعات المسؤولية المجتمعية للمجتمعات المستضيفة للأنشطة والصناعات التعدينية بما يساعد على الاستقرار وسهولة الاستثمار في مناطق إنتاج الذهب.