لاجيء عشوائي..!
“ليس للاقتناع قيمة إذا لم يتحول إلى سلوك”.. توماس كارليل..!
بعد اندلاع هذه الحرب وبعد أن أصبحنا لاجئين في بلاد الناس أصبحنا نلاحظ تذمرهم من سلوكياتنا العامة، ولكن الكثيرين منا يردون عليهم بملاحظات وانتقادات قاسية مماثلة، عوضاً عن التفكير في دوافع تلك الملاحظات والانتقادات والعمل على تمثيل بلادنا بشكل لائق!.
قبل سنوات كتبتُ مقالاً عن سلوكنا العام كشعب في عيون الآخرين، قلتُ فيه إن المواقف العامة التي أواجه عبرها نظرة الآخرين إلى بني جلدتي، تستثير قناعة قديمة رابضة في داخلي ـ ذكرتُها غير مرة ـ مفادها أننا نحن السودانيون شعب يشبه أغنياته..!
نحن نشبه أغنياتنا التي لا يطرب العرب كثيرا للحنها لأنها تنتمي إلى سلم موسيقى آخر غير الذي تعودوا عليه، بينما لا يستطيع الأفارقة ترديد كلماتها لأنها بالعربية ..!
حدة المزاج والشعور العميق تجاه الأشياء الذي يصل لحد الإخلاص الأعمى لقيم الحب والجمال والطيبة الساطعة والتطرف في التعبير عن ردود الأفعال، كل ذلك ربما أضفي على الشخصية السودانية بعداً مغايراً يميزها عن غيرها..!
لكن في مناخنا الإنساني مثالب تقف حجار عثرة أمام تحقق المنجز الإنساني والوطني، لأنها تجعل سلوكنا معيباً في عيون الآخرين ..!
لماذا نشعر ـ أحياناً ـ أن الآخرين لا يقدروننا حق قدرنا، وهل نحن مسئولون عن هذا التمييز الشعبي السلوكي إن وجد؟. بلى هو موجود، وبلى نحن مسئولون ..!
في طريقي من مطار إحدى دول الخليج إلى مطار الخرطوم لاحظتُ كم وكيف هذا التمييز الشعبي، السلوكي في أثناء عبوري للبوابة الفاصلة بين صالة المودعين وصفوف المسافرين الواقفين أمام ضابط الجوازات. سمعت أحد الضباط يقول مخاطباً مرافقه وهو يشير نحو زميله المسئول عن مراجعة جوازاتنا “الله يعينه على السودانيين”..!
ما أن أخذت مكاني من الصف حتى بدأ بنو جلدتي يمارسون هوايتهم المحببة في ممارسة العشوائية باختراق الخط الفاصل بين مكان وقوف المسافر صاحب الدور أمام “الكاونتر” وبقية الواقفين في الصف الطويل ..!
إما أن “تتحنفش” وتعيش وهم أننا الأفضل والأكثر علماً وفهماً وذوقاً من شعوب كثيرة، كما يردد البعض، وإما أن تكون منصفاً فتتفهم أسباب نميمة ذلك الرجل، وتفهم موجبات دعائه لزميله بالعون علينا وعلى عشوائيتنا القاتلة ..!
بلا مكابرة أو “حنفشة” نحن الدولة العربية الوحيدة ـ تقريباً ـ التي يتذمر ضباط الجوازات في الخليج من عشوائية المسافرين من شعبها، وعدم التزامهم بالخط الفاصل قرب “كاونتر” الجوازات ..!
تأخرت الرحلة حوالي الساعتين، فلم يكلف أحد نفسه عناء الاعتذار أو التنبيه أو التنويه إلى موعد الإقلاع الجدي، بقينا نتلفت يمنة ويسرة، ونتثاءب، ونحن في حيرة من أمرنا حتى فوجئنا بفتح باب الصعود إلى الطائرة “من سُكات”..!
وقبل أن يتملكني الغضب من هذا التمييز السلوكي المستفز لاحظتُ كم الأكياس والحقائب اليدوية التي يحملها معظم المسافرين السودانيين بمشقة بالغة تفادياً لشرور الوزن مدفوع الأجر. ومعظمها أمانات يحملونها مكرهين، بوازع من عشوائية أناس آخرين حملوهم إياها في آخر لحظة قبل السفر، وبمنتهى العشوائية ..!
أثارت شفقتي أم شابة تحمل وليداً حديث العهد فحملت عنها كيساً كبيراً لست أدري كيف استطاعت حمله مع مشقة حمل طفلها النائم ..!
كيف لا يهملون تنبيهنا إذن، وكيف لا يتجاهلون نظام تذكيرنا بالمواعيد ونحن نظهر احترامنا لأي نظام. نظرات الاستياء تبدو واضحة على وجوه المضيفات والمضيفين من كم الأكياس والحقائب التي ينوء بحملها المسافر السوداني ..!
صياح الكبار وصراخ الصغار الذي لا ينقطع طوال الرحلة، العشوائية في الجلوس على المقاعد، كل هذا وغيره يبدد حرص طاقم الضيافة) في مختلف المطارات ومعظم الطائرات – التي تحمل المسافرين السودانيين – على كرم الضيافة ..!
مواقع التواصل الاجتماعي في مصر تضج هذه الأيام بخبر الحفل الغنائي الذي أحيته مطربة سودانية وكان يعج بالشباب المخالفين لشروط الإقامة والذين تم ترحيلهم..!
المهم في تقديري ليس كون هذا الخبر حقيقياً أم لا، بل ظاهرة كثرة الحفلات الغنائية الصاخبة في ظل ظروف هذه الحرب وإشكالاتها، والتي تعطي الآخرين انطباعاً بقلة المروءة وضعف الحس الوطني!.
munaabuzaid2@gmail.com