المغالطات المنطقية والإبادة الجماعية..!

“دغدغة مشاعر الجمهور ورغباته أشد إقناعاً من أي احتكام إلى العقل”.. أفلاطون..!

المجرمون الفارون من العدالة كانوا يستخدمون حيلةً ذكية لتضليل كلاب الحراسة التي تتعقبهم، فيقومون بسحب سمكة رنجة حمراء عبر مسار المطاردة. فتنجذب أنوف الكلاب إلى رائحتها الشديدة ويتشتت انتباهها عن رائحة الطريدة الأصلية..!

المثال أعلاه ورد في كتاب “المغالطات المنطقية” لمؤلفه “عادل مصطفى”، كأحد الأمثلة التي تتم استعارتها للتعبير عن أي محاولة لتحويل الانتباه عن المسألة الرئيسة أو المشكلة الحقيقية في أي جدال. وذلك من خلال إلقاء موضوع مثير للانفعالات لقذف الخصوم خارج مضمار الحديث..!

المؤلف يقول إن تلك واحدة من الطرق التي يتم من خلالها استهلاك طاقة الخصوم في مغالطات خارجة عن القضية الحقيقية، وإثارة مشاعر الجماهير وانتباههم بطرح مسألة داوية لكنها بعيدة عن الموضوع الرئيس. فتهوي إليها أفئدة الجماهير ولا يعود أحد يتذكر القضية الحقيقية..!

وكثيراً ما ينجح أصحاب هذه الطريقة في صرف الانظار وتحويل مسار الحديث وتبديد المناقشات والانفراد بالساحات، والظهور بمظهر المنتصرين، وكأنهم يفوزون لغياب خصومهم..!

ولعل خير مثال على استخدام حيلة سمكة الرنجة الحمراء في الحروب الأهلية هي الإجابة التي تقوم مليشيا الدعم السريع بالترويج لها كإجابة على السؤال الأشهر في هذه الحرب “من الذي اطلق الرصاصة الأولى”..!

وإلا فقل لي بالله عليك، إذا سألت إحدى السيدات اللاتي تم اغتصابهن وقتل آبائهن وأزواجهن وإخوانهن قبل وبعد نهب ممتلكاتهم، أو أحد الرجال الذين تم اغتصاب أخواتهم وزوجاتهم وأمهاتهم في ولاية الجزيرة خلال هذه الحرب – إذا سألتها أو سألته – عن مدى أهمية السؤال عن من الذي أطلق الرصاصة الأولى في هذه الحرب، فبماذا تعتقد أنه سيجيبك..!

إذا قابلت أحد الناجين من الإعدام ذبحاً أو القتل حرقاً أو الدفن حياً خلال جرائم الإبادة الجماعية التي كانت مليشيا الدعم السريع ولا تزال تقوم بارتكابها في دارفور قبل وأثناء هذه الحرب، وسألته عن مدى أهمية السؤال عن من الذي أنشأ قوات الدعم السريع، فبماذا تعتقد أنه قد يجيبك..!

إذا سألتني أنا أو سألتك أنا عن مدى أهمية أو تأثير مثل هذا النوع من الأسئلة في عملية الحكم على طبيعة جرائم حرب وانتهاكات مليشيا الدعم السريع بحق المواطنين المدنيين العُزَّل من القتل إلى الحرابة إلى الاغتصاب إلى التعذيب.. إلخ.. فبماذا قد تجيبني أنت وبماذا سوف أجيبك أنا..!

لست أدري بالضبط، لكن كل الذي أدريه أن جميع الأسئلة الواردة أعلاه تافهة وبلا جدوى، فضلاً عن كونها تتاخم الوقاحة وتقف بثبات على أعتاب التسفل والانحطاط إذا ما تمت مقارنة أهمية الإجابة عليها بهول وفظاعة الجرائم التي قامت مليشيا الدعم السريع بارتكابها في حق المدنيين الأبرياء منذ اندلاع هذه الحرب..!

لن تغير هوية أو ماهية من أطلق الرصاصة الأولى شيئاً في حقيقة جرائم وانتهاكات هذه المليشيا. ولكن إذا كانت الإجابة على مثل هذه الأسئلة ملزمة أو ضرورية فإن الكثير من الشواهد تؤكد أن مليشيا الدعم السريع هي التي خططت لهذه الحرب مع حلفاء آخرين داخليين وخارجيين، فأعدت لها العدة ثم سارعت إلى إطلاق رصاصتها الأولى..!

munaabuzaid2@gmail.com