ذمة وطنية منفصلة..!
“المُعارضة تحتاج إلى شَجاعة لكن مُعارضة المُعارضة تحتاج إلى قدر أكبر من الشَجاعة. فالتَشكيك عمل جرئ لكن التَشكيك بذلك التَشكيك هو عمل أكثر جرأة” .. د.أحمد خالد توفيق ..!
مُشكلة معظم المستهلكين مع أشهر بسكويت شاي في السودان ليست في الجودة لأن جودته عالية، وليست في المذاق لأن مذاقه رائع، بل في اختلاف درجة الهشاشة أو الصلابة من عُبوَّةٍ إلى أخرى. حتى وإن جرَّبتَ شراءه بالجملة ستجد دوماً أن الكرتون الواحد يحتوي على مغلفات متفاوتة ..!
عُشَّاق الشاي بالبسكويت يفهمون جيداً ما أعنيه، تغميس البسكويت في الشاي عادة سودانية أصيلة تتطلب احترافيةً في تحريك اليد وفي ضبط التوقيت معاً، وذلك بناءً على علمٍ مُسبق بدرجة الصلابة المذكورة آنفاً..!
وهي – على كل حال – إحدى إشكالات الحياة. أن تعتاد على حال ثم تبني أفعالك وردودها عليها، قبل أن تتغير تلك الحال، فتحتاج بعض الوقت قبل أن تنجح في إعادة ضبط ما تتوقعه بناء على تحديث ما قد بلغك من العلم ..!
لكن اللا منتمين – وهم بالمناسبة قلة قليلة – لا يفعلون، لا يتشَبثون دوماً بتوقعاتهم ولا يُسَلِّمون دوماً بتمام مبلغهم من أي علم. في كتابه “اللا منتمي” يقول “كولن ويلسون” إن الشخص الذي ينطبق عليه العنوان هو العاقل الوحيد في عالم المجانين، لأنه يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أسسٍ واهية..!
اللا منتمي يشعر أن الاضطراب والفوضوية – في كثيرٍ من الأحيان – أعمق من النظام الذي يحكم حياة من حوله”. وهو في نظر الآخرين مشكلة اجتماعية لأنه شخص يعيش خارج على أطر المجتمع، ولا يستطيع أن يخضع لشروطه لكنه – في المقابل- لا ينجح في أن يخضع ذات المجتمع لشروطه هو ..!
قد يكون اللا منتمي – وهذا هو المغزى الرئيس من ضرب المثال – “صاحب ذمة سياسية منفصلة”، أو أفكار وطنية إصلاحية مستقلة، وبالتالي فإن مواقفه على وجه العموم – وفي هذه الحرب على وجه الخصوص- لا تكون مضبوطةً على موجة الجماهير..!
إذ وعلى الرغم من وقوفه مع الجيش ووقوفه ضد المليشيا فهو ليس مع الإسلاميين وليس منهم، وعلى من كونه كذلك فهو يناهض ويعادي وقفات ومواقف تنسيقية تقدم، وعلى الرغم من كل ذلك فهو ليس شيوعياً.. وهكذا..!
اللا منتمي لغير جيش الوطن في زمن الحرب اليوم هو ذات المواطن الذي كان يتفق مع الأغلبية في الثورة على الظلم ومحاربة الفساد ورفض المحسوبية والمحاصصات، وفي المعنى العام لقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، لكنه كام يختلف عنهم في رؤيته بشأن بعض التفاصيل..!
اللا منتمي لغير جيش الوطن في زمن الحرب هو ذات المواطن الذي كان يتفق مع مباديء الانتقال الديمقراطي في المطلق، لكنه كان يختلف مع سلوك بعض الانتقاليين، وكان يرفض قرارات بعض الحاكمين..!
لكن اختلافه ذاك لم يكن يعني اتفاقه مع انتقادات بعض الشموليين ومعظم الفلول، ولم يكن يعني تأييده لآرائهم في تقييم ظروف وملابسات الثورة والانتقال..!
اللا منتمي سياسياً في زمن السلم واللا منتمي لغير جيش الوطن في زمن الحرب ليس مواطناً محايداً، بل وطنيٌّ فاعل، ولكن على طريقته..!
هو إذن من الجماهير العريضة التي تؤيد الشاي بالبسكويت وتتفق على أن مذاقه رائع وعلى أن جودته عالية، لكنه يختلف عنهم في طبيعة موقفه من مشكلة تفاوت درجات الصلابة والهشاشة التي تصر الشركة المُصَنِّعة على تجاهل أهميتها، وعدم الاكتراث بحلها ..!
لذلك تجده اليوم، وبعد تأملٍ عميق وتفكيرٍ عقلاني، يعيش حالة من الحياد الإيجابي بشأن معضلة جودة البسكويت. المهم أن يكون هنالك شاي للشرب، وبسكويت للأكل، وصحة لا تحرمه الاستمتاع بجلسات شاي الصباح وشاي المغرب..!
وهذه حال مؤسفة بالطبع، وهي لا تليق بحكمة “اللا منتمين” ورحابة وعيهم لكن من قال إن هذه الحياة تكون دوماً عادلة ..!
munaabuzaid2@gmail.com