ليسوا سواء!

* استراتيجيتهم بسيطة.. وإن شابها بعض الغباء، فهم يريدون إخفاء انحيازهم المشهود للمليشيات المجرمة، ومداراة كراهيتهم الشديدة للجيش، ليزعموا أنهم محايدون ومحبون للسلام وكارهون للحرب ويقفون على مسافة واحدة من طرفيها.. لذلك اجتهدوا لتقسيم البلاد والعباد إلى معسكرين لا ثالث لهما برؤيتهم الخاصة!
* معسكر (لا للحرب) الذي يمثلهم.. ومعسكر (نعم للحرب)، الذي يضم كل مساندي الجيش، أو (البلابسة) كما يصفونهم!
* فات عليهم أن تلك الاستراتيجية تعاني من مشاكل حقيقية، وعيوب خَلقية، تجعلها صعبة التطبيق، وعصيةً على التصديق!
* أولها أن حلفاءهم صعّبوا مهمتهم إلى الدرجة القصوى، بجرائمهم المروعة، وانتهاكاتهم الشنيعة وأفعالهم المريعة، وبالحرب المجنونة التي شنوها على المواطنين قبل الجيش!
* ما دخلت المليشيات مكاناً إلا فرَّ منه أهله فرار الصحيح من الأجرب، ومصيبة داعمي المليشيات أن الملايين الذين يهربون من مواقع انتشار المليشيات يتجهون من فورهم إلى مناطق سيطرة الجيش!
* لماذا؟
* في الإجابة البسيطة على ذلك السؤال الساذج تتضخم محنة المليشيات المجرمة وداعميها المنافقين.. لأن المواطنين يعلمون أن الجيش والمرتزقة ليسوا سواء!
* ثاني الأسباب التي تجعل استراتيجية داعمي المليشيات عصيةً على التصديق والتطبيق أن شهود جرائم المرتزقة كانوا بالملايين، ممن يصعب؛ بل يستحيل عملياً على (المتقزمين) إقناعهم بأن المرتزقة والجيش سواء، لأنهم عايشوا ورأوا بعيونهم عِظَم الفارق بين هذا وذاك!
* في مدينة مدني على سبيل المثال، كان الناس يعيشون بالملايين.. ويتمتعون بالأمان.. يشترون ويبيعون في أسواق مفتوحة وآمنة، ويسكنون في بيوتهم آمنين مطمئنين، ويقودون سيارتهم في طرقات آمنة، من دون أن يخشوا عليها من الشفشفة، وكانوا يتعالجون في مستشفيات حكومية وخاصة يتوافر فيها الحد الأدنى من العناية الصحية، ويتعاملون مع بنوك تجارية تعمل بانتظام وتتعامل معهم باحترام، وكانوا يستخرجون أوراقهم الثبوتية ومستنداتهم من مراكز خدمات تتبع للدولة التي يمثلها الجيش، ويحظون بخدمات الماء والكهرباء بما يتناسب مع ظروف الحرب، والصعوبات التي صنعتها المليشيات المجرمة!
* كل ذلك ضاع وتلاشى في اليوم الأول الذي احتل فيه المرتزقة مدينة ود مدني، حيث ضاعت الطمأنينة، وسادت الفوضى، وعمَّت جرائم القتل والسرقة والاغتصاب، وتم نهب مؤسسات الدولة والبنوك والأسواق والمستشفيات والصيدليات وتحولت المدينة الحالمة إلى خراب ينعق فيه البوم (البعجبو الخراب)!
* ما أن اقتحم جراد المليشيات مدني حتى اختفت منها كل مظاهر الحياة، وعادت إلى العصر الحجري، وخرج المواطنون بالملايين فارين منها إلى سنار والمناقل وكوستي والقضارف والدويم وغيرها بحثاً عن الأمان المفقود.. ومعلوم للكافة هوية الجهة التي تسيطر على المدن المذكورة!
* حتى في الخرطوم، غابت كل مظاهر الحياة الطبيعية إلا في محلية كرري الواقعة تحت سيطرة الجيش، حيث يتوافر للمواطنين الأمان والمستشفيات والأسواق والخدمات العامة والبنوك وغيرها، وفي أم درمان نفسها انعدمت الحياة تماماً في الأحياء القديمة، بمجرد احتلال الجنجويد لها، وما أن نجح الجيش في دحرهم وطردهم منها حتى عاد المواطنون إليها، ودبت فيها الحياة من جديد، وتم رفع الآذان في المساجد ودقَّت أجراس الكنائس!
* لماذا؟ لأن المواطنين يعلمون تماماً أن الجيش والمرتزقة ليسوا سواء!
* وفي ولاية الجزيرة التي تعرضت كل مدنها وقراها إلى اجتياح تتار العصر الحديث اختفت مظاهر الحياة وضاعت الطمأنينة ما خلا في مدينة المناقل والقرى المحيطة بها، حيث يوجد الجيش ويوجد معه الأمان!
* فهل يمكن بعد ذلك كله أن نقول إن الجيش والمرتزقة سواء؟
* ثالث الأسباب التي تجعل استراتيجية داعمي المليشيات عصيةً على التصديق والتطبيق أن إقناع الناس الجيش والمرتزقة في الإجرام سواء مستحيل، مهما تفنن المتقزمون في إبراز تجاوزات أو انتهاكات منسوبةً للجيش وعلى رأسها القصف الجوي، لأن الناس يعلمون يقيناً أن الجيش لا يستهدفهم بالقصف، حتى إذا صاحبته أخطاء وأدت إلى إزهاق أرواح بريئة!
* الجيش يقصف المرتزقة لا المواطنين، ولو كان يستهدف المدنيين عمداً لقصفهم في كوستي وسنار وسنجة والدمارين وربك وشندي وعطبرة والدامر وبربر وكريمة ودنقلا والقضارف وكسلا وغيرها من المدن التي يسيطر عليها، وسكانها بالملايين، بل إن تلك المدن احتضنت ملايين الفارين من جحيم الجنجويد المجرمين!
* لن يصدق الناس أن الجيش والتتار سواء حتى إذا ارتكب أفرادٌ من الجيش جرائم أو انتهاكات كبيرة، لأن المواطنين يعلمون بدءاً أن الجيش ليس المدينة الفاضلة، وأنه ليس مكوناً بكامله من الملائكة، وأنه (كأي مؤسسة أخرى) يضم متفلتين، وأفراداً غير مسئولين، يخرقون القانون ولا يحترمون الضوابط التي تحكم عمل المؤسسة التي ينتمون إليها.. لكن الثابت أن هؤلاء قِلَّة لا يُعتدُّ بها، خلافاً للمعسكر الآخر، الذي قلَّما تجد فيه أسوياء لا يقتلون وينهبون ويغتصبون ويدمرون ويحرقون!
* رابع الأسباب التي تجعل استراتيجية داعمي المليشيات عصيةً على التصديق والتطبيق أنهم (وعلى كثرة ترديدهم لشعار لا للحرب) يتعمدون غض الطرف عن دول مجرمة، تعمل بكل قوتها وإمكاناتها لتطبيق شعار (نعم للحرب)؛ وتزيد نيران الحرب اشتعالاً، وخسائرها استفحالاً!
* دول تقتل أهل السودان مع المرتزقة بدمٍ بارد وتساعد على توسيع رقعة الحرب وتضخيم فواتيرها بتقديم السلاح وكل أدوات الموت للمليشيات المجرمة، ومع ذلك لم نسمع لأبالسة (تقدم) إدانةً لهم، ولم يحدث أن وصفوهم بالبلابسة، أو نعتوهم بمسعّري الحرب، مثلما لم نسمع لهم حتى مناشدةً خجولةً لتلك الدول بأن تكف يدها عن التدخل في السودان، وتتوقف عن توريد السلاح والذخائر والمدافع والتاتشرات وكل أدوات الموت للمليشيات، والسبب معروف لأهل السودان كافة!
* انظروا بالله عليكم كيف هبَّ كل مناصري (تقدم) لإدانة الجيش ووصمه بأنه يضم دواعش وجماعات متطرفة بمجرد ظهور فيديو يمثل فيه أفراد (تزعم تقدم أنهم ينتمون للجيش) بجثة.. حيث تسابقوا من دون فرز للتنديد بجريمةٍ نوافقهم على أنها منكرة، وأن مرتكبيها ينبغي أن يُلاحقوا ويحاكموا، وأن تُغلّظ لهم العقوبة سيما إذا كانوا ينتمون إلى الجيش فعلاً، لقبح فعلهم، ولأنه يشكل جرماً مُنكراً، وخرقاً فادحاً ومستهجناً لكل الضوابط والقوانين التي تحكم عمل المؤسسة التي ينتمون إليها!
* لكن.. وفي المقابل (كما يقول صاحب الاتجاه المعاكس) ينسى المتقزمون في غمرة اندفاعهم لتجريم الجيش أن بياناتهم تلك تدينهم وتصفهم بالجبن والانتهازية والتناقض والانحياز ابتداءً، لأن مرتزقة الدم السريع ارتكبوا انتهاكات أوسع وأشنع من الجرم المعزول الذي استنكرته (تقدم)، عندما قتلوا أكثر من 15 ألفاً من سكان مدينتي الجنينة وأردمتا في أيام معدودة، ومثلوا بجثثهم، ودفنوا معظمهم في مقابر جماعية، بل قبروا أبناء قبيلة المساليت أحياء، ولم يفتح الله على المتباكين حالياً ببيان أو كلمة رفض واستهجان، الشيء الذي يفضح انحيازهم، ويكشف عدم استوائهم على جادة الحق والصراط المستقيم، ويؤكد أن تقدم والمرتزقة سواء، مهما تخفوا وتذاكوا وتباكوا بدموع التماسيح!
* لذلك لم يتأخر غالب أهل السودان عن دعم الجيش ومناهضة المرتزقة وداعميهم، وملاحقتهم في مواقع التواصل الاجتماعي وفي كل مكان يظهرون فيه على الملأ، لتمام علمهم بأنهم والمرتزقة سواء، وأن الجيش والمليشيات ليسوا سواء، حتى ولو تجاوز بعض منسوبي القوات وارتكبوا جرائم معزولة، لا تشبه المؤسسة المهنية العريقة والمحترمة التي ينتمون إليها!
* ليسوا سواء.. ولن يصدق أهل السودان أنهم كذلك، مثلما لن يكفوا عن ربط أوغاد آل دقلو بجنجويد (تقدم).. لتمام علمهم بأن الكدمول يربطهم، مهما تفننوا في إخفائه وأمعنوا في إنكاره!

اقرأ أيضا