“الشغل بالجاز”..!
” سوف أترك الحكم لأنني لا أستطيع أن أنفذ سياستي لمصلحة الوطن في هذه الظروف الدنيئة”.. شارل ديغول..!
السليقة السودانية تختزل الكثير من المعاني الملتبسة في مصطلحات قصيرة على غرار “كلام ني”، “حبال بلا بقر”، “قام من نومه لقى كومه”.. إلخ.. فتريح المخاطب من التفكير وتريح المتكلم من الشرح والتفنيد..!
وقد استشعرت هذه الراحة وأنا أستخدم كل المصطلحات الواردة في الفقرة أعلاه، في جملة واحدة رداً على تعقيب لأحد الإخوة – الذين يقفون في برزخ التنديد بجرائم الدعم السريع مع المحافظة على شكراً حمدوك – بشأن مقال أشرت فيه إلى فشل حمدوك كرئيس وزراء..!
كان ذلك الأخ الكريم يردد جملة “ما خلوه يشتغل” دونما كلل وكأنها “كوبليه” في أغنية كلثومية. فجاء ردي بما معناه أن هذا “كلام ني” عن تجربة رجل “قام من نومه ولقى كومه”، لكنه قصر في فترته الأولى وتخاذل في فترته الثانية، وأعطى هذا الشعب “حبالاً بلا بقر”، ثم ولى الأدبار..!
بعدها عدنا إلى محطة “ما خلوه يشتغل” – بإيقاع أسرع هذه المرة – فاقترحت عليه أن نأخذ مثالاً من طرف دولاب التاريخ المعاصر على شخصية سياسية تغلبت على ظروف أكثر صعوبة وقتامةً وتعقيداً..!
إن الله لا يستحيي ان يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها، كان يا ما كان، كان هنالك سياسي وعسكري فرنسي اسمه “شارل ديغول” احتل الألمان بلاده بعد أن توعدها “هتلر” بأن برج إيفلها سوف تسكنه الكدايس..!
فلم يحاول الرجل تحدير الشعب بوعود على غرار “سنعبر وسننتصر” دون أن يعبر حتى شارع زلط، بل دعا الفرنسيين إلى مقاومة المحتل “لقد خسرنا معركة لكننا لم نخسر الحرب”، وانتصر على “هتلر”، وحكم بلاده بعد تحريرها مدة عامين..!
وعندما استاء من الصراعات السياسية بين الأحزاب الفرنسية قال مخاطباً شعبه قبل أن يترك الحكم “لا يمكن للمرء أن يكون رجل الأعاصير الكبرى ورجل الحرتقات الصغيرة في آن معا”، وعاد إلى قريته وتفرغ لكتابة مذكراته..!
ولكن بعد تفاقم أزمة استعمار الجزائر وعجز الزعماء السياسيين عن حلها، زاروه واقترحوا عودته إلى حكم فرنسا التي أنقذها في السابق من ماساة الاحتلال لكي ينقذها من ورطة الاستعمار هذه المرة..!
عاد” ديغول” إلى الحكم وقاد حملة شرسة للقبول باستقلال الجزائر، وتعرض لمحاولات اغتيال واضطر إلى الوقوف ضد رغبة الشعب الذي كان رافضاً لاستقلال الجزائر. فعل كل ذلك من أجل المصلحة العليا لوطنه، وهنا يكمن معنى الزعامة الحقيقية التي تستوجب الشكر..!
هذا رجل وقف مع الشعب مرة ووقف ضد الشعب مرة أخرى، ولكن من أجل مصلحة الشعب والوطن، فأنقذ بلاده مرتين، وبنى نهضتها الحديثة..!
باختصار نجح الرجل، على الرغم من أن بعض السياسيين الذي تواطئوا مع المحتلين في المرة الأولى قد حاولوا عرقلته، وعلى الرغم من أن المواطنين الذين وقف ضد إرادتهم في المرة الثانية “ما خلوه يشتغل”..!
ولا غرو فهذا شأنٌ جلل يتطلب توافر العزيمة الوطنية التي تحرك القطار. تلك الصفة القيادية كانت “الجاز” الذي ينقص “حمدوك”، لذا فقد كان من الصعب عليه أن يشتغل..!