مع إستمرار الحرب وتمددها.. هل يصبح التعليم ترفاً ؟

تقرير: ندى رمضان في  ظل الحرب الدائرة في السودان والتي دخلت عامها الثالث تحولت العملية التعليمية من حق أساسي إلى ترف مفقود، ومن ركيزة للتنمية إلى ضحية إضافية ضمن قائمة طويلة من الخسائر الوطنية. وبحسب مراقبين فالحرب لم تدمر فقط البنية التحتية والمؤسسات، بل أزاحت التعليم من سلم الأولويات، وتركت جيلاً كاملاً دون مستقبل معلوم. ومنذ اندلاع الحرب يتعرض قطاع التعليم لأضرار جسيمة تهدد مستقبل الأجيال القادمة.وفقًا لتقديرات اليونيسيف، فقد أدت الحرب إلى إغلاق أكثر من (13 الف) مدرسة، مما أثر على حوالي (7 مليون) طفل، تركوا مقاعد الدراسة وتقطعت بهم السبل التعليمية. وحسب المتابعات لم تخلف الحرب وراءها الدمار المادي فقط ، بل عرضت الطلاب والمعلمين لصدمات نفسية عميقة، مما يفاقم الأزمة ويعقد عملية إعادة بناء النظام التعليمي.  (مداميك) استطلعت عدد من الطلاب لتقف على معاناتهم فكانت الحصيلة التالية:ـمحمد ذو الإثنا عشر ربيعاً فر من حرب السودان مع عائلته  إلى مصر واستقر بحي شعبي بشقة صغيرة . والده يعمل بإحدى المخابز المتخصصة (للعيش السوداني). محمد يحلم بالدراسة والتعلم ويحلم أن يصبح طبيباً، لكن عائلته لا تستطيع تحمل رسوم الدراسة المرتفعة، فاضطر للعمل ببقالة لمساعدة أسرته ليبقى أمر تحقيق رغبته رهين بتوفر المال أو توقف الحرب بالسودان ليعود هو وأقرانه لمقاعد الدرس .يقول شهاب، أحد الطلاب النازحين بعطبرة لـ(مداميك): ” كان من المفترض أن أكون في العام الثالث من دراستي الجامعية، ولكن بسبب الإضطرابات المتكررة منذ توقف الدراسة بسبب تغير نظام البشير ثم اندلاع الحرب قبل أيام من امتحانات الشهادة السودانية، مازلت عالقًا في الصف الثالث الثانوي .. أشعر بأنني فقدت مستقبلي ” .وروت إعتدال (نازحة) وهي أم لأربع أبناء أصغرهم يبلغ من العمر ستة أعوام قالت قبل إندلاع الحرب كان يدرس  بالروضة والآن لا ندري من أين يبدأ تعليمه، بعد ضياع ثلاث سنوات من عمره دون أن يلتحق بالمدرسة . وبالمقابل أشارت لوجود مبادرات شبابية لتعليم التلاميذ بمنطقتهم ساعدت كتيراً في استذكار الدروس ومراجعتها لكنها تبقى مبادرات وليست تعليماً نظامياً .ومن جهتها تحدثت مديرة مدرسة (تكوين) المختلطة بشرق النيل أستاذة. تهاني عوض الله في تصريح لـ(مداميك)، بأن من أصعب ما أفرزه واقع التعليم السئ هو بقاء عشرات الآلاف من الأطفال السودانيين داخل البلاد وخارجها خارج المدرسة في مستقبل مجهول ولا يبشر بخير علي الاطلاق  .واحدة من الآثار الكارثية للحرب في قطاع التعليم العام، هو زيادة فرص التسرب من التعليم بسبب النزاع الذي شمل مناطق واسعة في السودان. بجانب  اللجوء لدول الجوار مع عدم توفر فرص التعليم بسهولة بسبب القوانين في بعض الدول، أو بسبب عدم توفر البيئة المناسبة للتعليم. اضافة للوضع الاقتصادي المعقد الذي خلفته الحرب وانعكس على الأسر السودانية، جعلها عاجزة عن القدرة على مواصلة تعليم أبنائها. وأشارت تهاني أن إنشغال وإهمال الدولة للتعليم ليس وليد السنوات القليلة الماضية، لكنه إهمال متوارث ازداد سوء مع بداية الحرب ،حيث أن  وزارة المالية اوقفت صرف مرتبات المعلمين لفترة تجاوزت 15 شهراً مما جعلهم في حالة فقر وحوجة. واضافت غير الأضرار التي لحقت بالمدارس، خاصة الولايات التي تعرضت لهجمات  بعيداً عن سوء البيئة المدرسية وفقرها وقلة تأهيل المعلم اكاديمياً ومهنياً. وأكدت أن التعليم يحتاج للكثير من الإصلاح الذي يرتبط بتخصيص الدولة لميزانية حقيقية لذلك .وقالت تهاني أن الحل الأمثل لأزمة التعليم يبدأ بوقف الحرب ،ثم الشروع فوراً في وضع برنامج عمل وفق خطة مدروسة تستوعب الواقع، لتعالج المشكلات الكارثية التي خلفتها الحرب، والتي من بينها نسبة التسرب العالية ،إنهيار البيئة المدرسية، وإنعدام معيناتها (كتاب _إجلاس الخ) فضلاً عن امتصاص تراكم دفعات القبول للصف الأول “حيث تراكمت ثلاث دفعات وقد ندخل في الدفعة الرابعة بعد قليل” . واستطردت بقولها: ” لابد أن نشير إلى الطفل الذي كان عمره عند اندلاع الحرب ٣ سنوات سيدخل في نهاية العام ضمن المستهدفين، أما الطفل الذي كان عمره ٦ سنوات فقد يدخل في عامه التاسع بنهاية العام ” . وحذرت تهاني من مغبة الإرتداد للأمية في الحلقة الأولى بسبب التوقف الطويل عن الدراسة وعزوف المعلمين عن العمل في مهنة التعليم، وتوقف المرتبات وغيرها من المشكلات.وحول الواقع المهني للتعليم قالت عضوة لجنة المعلميين السودانيين سنية اشقر في حديثها لـ(مداميك)، تضررت آلاف المدارس والجامعات، وتوقف معظم المعلمين والأكاديميين عن أداء مهامهم، بسبب النزوح، أو لانعدام الأمن، أو لانهيار شبكات الأجور والدعم الحكومي. ونبهت الى البنية التعليمية التي كانت تعاني أصلًا من ضعف التمويل وسوء الإدارة، وأصبحت الآن في حالة موت سريري. وعابت عدم وجود خطط طوارئ حقيقية، ولا آليات لتعويض الفاقد التعليمي ما أفرز طلاب بلا فصول، ومعلمون بلا أدوات، ومجتمع بلا مستقبل واضح .وفيما يختص بالتعليم كحاضنة مجتمعية أكدت سنية أن المدارس ليست فقط أماكن لتلقي المعرفة، بل مساحات للحماية النفسية والدعم المجتمعي للأطفال. وأكدت أن غياب التعليم يعمّق الفجوة بين الأجيال، ويزيد من معدلات عمالة الأطفال، والزواج المبكر، والتجنيد القسري. واشارت إلى أن الحرب أخذت من الأطفال حقهم في الطفولة، وتخوفت من سرقة مستقبلهم العلمي والمهني.وفي السياق ذاته إنتقدت سنية عدم وجود رؤية استراتيجية لحماية التعليم أو إعادة تأهيله. وقالت ان القوى المتصارعة تعاملت مع المدارس والجامعات كمواقع جغرافية لا كرموز للسيادة الوطنية والتنمية . واستدركت، حتى القوى المدنية التي تنادي بالتغيير الديمقراطي لم تقدم خارطة طريق واضحة لتأمين العملية التعليمية خلال الحرب أو ما بعدها. وأضافت أن التعليم ظل خارج المعادلة، رغم أنه أحد أهم مفاتيح الخروج من الأزمة . مشددة على ضرورة إنقاذ التعليم في السودان كضرورة وطنية . ونادت القوى السياسية والمدنية والفاعلين الدوليين، لوضع التعليم في قلب أي مسار للسلام أو الإغاثة أو إعادة الإعمار وتفعيل أدوات التعليم الطارئ، والاستثمار في التعليم عن بعد، ودعم المعلمين، وإشراك المجتمعات المحلية في حماية المدارس وتسييرها . وقطعت بقولها : ” يبقى التعليم هو الرهان الوحيد الممكن لتجاوز جراح الحرب وصياغة مستقبل مختلف ” . .وحول التحديات التي تواجه العملية التعليمية قالت سنية أنها تتمثل في انهيار البنية التحتية التعليمية نتيجة للعمليات العسكرية وتدمير المؤسسات ونزوح المعلمين والطلاب من مناطق النزاع، وغياب البيئة التعليمية الآمنة . بجانب فقدان الدخل والدعم المهني للكادر التربوي، مما أدى إلى مغادرة المهنة أو اللجوء لمهن بديلة، ثم ارتفاع معدلات التسرب المدرسي وزيادة عمالة الأطفال والزواج المبكر للفتيات والتجنيد القسري والاستغلال الاقتصادي والجنسي للأطفال . مع غياب خطة وطنية بديلة لاستمرارية التعليم في حالات الطوارئ، اضافة الى تجاهل التعليم في أجندات القوى السياسية والعسكرية، وعدم توفر إرادة سياسية لحمايته ،فضلا عن توقف التعليم في إقليم دارفور وجزء كبير من كردفان ومنع طلاب تلك المناطق للتسجيل في ولايات أخري لمواصلة تعليمهم .وودعت سنية بضرورة تفعيل آليات التعليم في حالات الطوارئ وتطوير منصات تعليمية رقمية وإذاعية، وإعداد مناهج مختصرة ومرنة مناسبة للظروف الحالية. مع ضروة توزيع حقائب مدرسية ومستلزمات تعليمية في مراكز النزوح والملاجئ ، وتمكين الكادر التعليمي بإنشاء صندوق دعم عاجل لدفع حوافز المعلمين في مناطق النزوح واللجوء. وتقديم برامج تدريب سريعة لتأهيل المعلمين في بيئات النزاع ، إشراك المجتمعات المحلية في إدارة العملية التعليمية، تفعيل المجالس التربوية الشعبية ، دعم مبادرات التعليم المجتمعي والمدارس البديلة . وتحييد المؤسسات التعليمية عن الصراع، وتضمين حماية التعليم في اتفاقات وقف إطلاق النار، وضمان عدم استخدام المدارس كمواقع عسكرية أو مراكز إيواء مسلحة.  وشددت على اهمية دمج التعليم ضمن أولويات الإغاثة الإنسانية وبناء السلام، بالضغط على المنظمات الدولية لتخصيص تمويل كافي لقطاع التعليم .