الأسلحة الكيميائية في السودان.. ضحايا بلا صوت ووقائع بلا تحقيقات
تقرير: سمية المطبعجي كان فرض العقوبات على قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان ضمن آخر قرارات حكومة الرئيس لأميركي جو بايدن المنتهية ولايته، والتي اعتذر نيابة عنه وزير خارجيته انتوني بلينكن عن عدم تمكنهم من إنهاء الحرب في السودان، وتزامن قرار العقوبات مع إتهامات للجيش باستخدام أسلحة كيميائية في حربه الحالية مرتين على الأقل في الخرطوم ودارفور. حيث ذكر تقرير لصحيفة (نيو يورك تايمز) أن مسؤولين في الحكومة الامريكية عبروا عن خشيتهم من استخدام الجيش لأسلحة كيميائية في أماكن مكتظة بالسكان في الخرطوم، وأبان التقرير أنه بالرغم من أن استخدام الأسلحة الكيميائية التي تحتوي على غاز الكلور لم يرد في نص العقوبات إلا أنه كان عاملا رئيسيا لفرضها. ذريعة للتدخل الدولي مراقبون أشاروا الى أن الإتهامات الامريكية تأتي كمقدمة وذريعة للتدخل الدولي في السودان مثلما حدث في العراق. فيما نفى سفير السودان لدى الأمم المتحدة استخدام الجيش السوداني لأي أسلحة كيميائية. وقلل محللون من الإتهامات لعدم منطقيتها، فالسودان تحت حصار ورقابة دولية من قبل فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة، كما أن إنتاج الأسلحة الكيميائية يحتاج إلى إمكانيات مادية وتكنولوجية عالية وبنية تحتية مكلفة لا يمتلكها السودان. فضلا عن أن السودان قد انضم لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية منذ العام 1999، بعد عام من ضرب مصنع الشقاء بالخرطوم في العام 1998 عقب اتهامات أمريكية مماثلة بامتلاكه أسلحة كيميائية ثبت عدم صحتها.تم فرض حظر الأسلحة على السودان على مراحل، بدءاً بفرض حظر الإتحاد الأوربي تصدير الأسلحة الى السودان في العام 1994 بسبب إنتهاك حقوق الإنسان. ثم فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية تضمنت حظر الأسلحة بسبب دعمه ما يسمى بالإرهاب الدولي. وبقرار مجلس الأمن الدولي 1556 في العام 2004 على خلفية النزاع في دارفور وانتهاكات حقوق الإنسان، والذي فرض حظراً جزئياً على جميع أطراف النزاع غير الحكومية والجماعات المسلحة في دارفور. وتوسع الحظر ليشمل الحكومة السودانية في العام 2005 بقرار مجلس الأمن الدولي 1591. سوق سوداء وداعمين محتملين ووفقاً للمعطيات على أرض الواقع تظل احتمالات الحصول على أسلحة كيميائية ضمن إمكانية الحصول على الأسلحة الحربية رغم الحظر المفروض على السودان، فطرفا النزاع في البلاد وشركائهم ظلوا يحصلون على السلاح بوجود الدعم الخارجي وفقا للمصالح السياسية والاستراتيجية. فالحلفاء الداعمون مثل إيران وروسيا لديهم تاريخ في تطوير قدرات كيميائية، ويقدمان دعماً غير مشروع بامداد الجيش بالأسلحة رغم الحظر. فقد أشار تقرير (المرصد الدولي للصراعات) إلى وجود جسر جوي بين إيران وبورتسودان لنقل الأسلحة. ولكن الترجيح الأكبر للحصول على الأسلحة الكيميائية يكون عبر تجارة السلاح غير المشروعة والسوق السوداء التي راجت في السودان.وأكد تقرير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة لعام 2022، نشاط تجارة الأسلحة عبر تجار يزاولون نشاطهم عبر الحدود بإقليم دارفور وأنهم يوردون أنواع كثيرة من الأسلحة والذخائر الى الأسواق المحلية بأسعار موحدة. وساعد في ذلك الأوضاع الأمنية غير المستقرة في دول الجوار (جنوب السودان – ليبيا – افريقيا الوسطى – تشاد). فالإنهيار الأمني في ليبيا التي طورت برنامجاً للأسلحة الكيميائية في عهد القذافي، واعترفت بذلك في العام 2003 وبدأت في تدميرها بإشراف دولي؛ يعتقد أنها قد تسربت بعد الفوضى التي أعقبت إنهيار النظام في العام 2011. كذلك روسيا رغم إعلانها تدمير أسلحتها في 2017 بموجب إتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية ، إلا أنها ظلت تتهم باستخدام مواد محظورة.كما أن المادة المستخدمة موضوع الإتهام للجيش السوداني هي مادة الكلور، وهي مادة رائجة في الاستخدام للصناعات لأغراض مدنية ولا يتطلب إنتاجها معدات وتقنيات معقدة. كما أن التصنيع الحربي في السودان قد اهتم في السنوات الأخيرة بتطوير التقنيات الحربية في مجال التكنولوجيا الحديثة بالتعاون مع الصين وروسيا وإيران. تقارير دولية ووقائع اتهام السودان باستخدام السلاح الكيميائي في حروبه الداخلية ليس بالجديد، فقد ذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية في العام 2016 أن تحقيقاً للمنظمة أظهر أدلة مروعة على استخدام متكرر لما يعتقد أنها أسلحة كيميائية ضد المدنيين من قبل القوات الحكومية السودانية في دارفور خلال العام. وقدرت المنظمة أن ما بين 200 الى 250 شخصاً لقوا حتفهم نتيجة التعرض لمواد مصدرها تلك الأسلحة. وظهرت اعراض مرضية على المئات بما فيها الاسهال والطفح الجلدي ومشاكل في العيون والجهاز التنفسي. وإذا أخذت بعين الاعتبار أعراض التعرض للكلور المتمثلة في حرقة وإحمرار في العينين وصعوبة في التنفس وضيق الصدر وتهيج الجلد وإحساس بالحرقة تصل إلى فقدان الوعي والوفاة، وما جاء في تقرير العفو الدولية، مقارنة بالأعراض الصحية التي ظهرت على المواطنين في الخرطوم ودارفور في ذات التوقيت، أبرزها ما سمي بإلتهاب ملتحمة العين، فإن التشابه في الأعراض يبدو واضحا. فخلال أغسطس 2024 إنتشرت حالات سميت (بالتهاب ملتحمة العين الحاد) في أجزاء واسعة من الخرطوم، ثم في ولايات عدة، وذكر بيان لغرفة طوارئ شرق النيل أن 60% من مواطني المنطقة أصيبوا بحالات إلتهابية وإحمرار في العين وإحساس بالحرقة والخشونة وفرط الدمع وإفرازات لزجة، فيما لاحظ المكتب الطبي لغرفة الطوارئ وجود حالات مصحوبة باسهالات وما يشبه نزلات البرد.وتلاحظ انتشار تلك الحالات في مدن العاصمة الثلاث. وفي ذات التوقيت من أغسطس أوردت تقارير صحافية إصابة المئات في مدن دارفور ابرزها، نيالا والضعين وبرام، بمرض غامض يصيب العيون متمثلا في تورم وإحمرار العينين مصحوب بآلام وصداع عجز الأطباء عن تشخيصه.وأفاد استشاري أمراض العيون د.عبد الوهاب السيسي، أن الحالات لها علاقة بمخلفات الحرب وأن الذخائر تؤثر على الشعب الهوائية والرئتين فور استنشاق الهواء والذي يصل مباشرة الى العيون. وفي تقرير صحافي اكد احد الكوادر الطبية بمدينة الضعين ان المستشفى بالمدينة استقبل اسر في أكتوبر الماضي، قصفت منازلهم يعاني افرادها من تشنجات وصعوبة التنفس، توفي منهم 11 شخصاً. تلوث بيئي هذا في الوقت الذي اشارت فيه وزارة الصحة السودانية حينها، الى أن المرض منتشر في مختلف ولايات السودان وأصاب أكثر من خمسة آلاف شخص في ولايات الشمالية والبحر الأحمر التي لم تشملها الحرب، وأن الأمر ناتج عن التلوث البيئي المرتبط بالفيضانات والأمطار. فيما أكدت تقارير صحفية نقلا عن أطباء بأن وباء ملتحمة العين ينتشر في البلدان التي تعاني النزاعات المسلحة والتي وصلت فيها البيئة إلى درجة كبيرة من التلوث بسبب مخلفات الحرب.الدعاوى الأخيرة باستخدام الأسلحة الكيميائية من قبل الجيش السوداني ضد المدنيين، ستضاف على ما يبدو الى ملف الاتهامات السابقة لتظل مجرد دعاوى في ظل الأزمة الإنسانية المنسية في السودان، فيما يتساقط الآلاف من الضحايا بصورة مستمرة.