“ولنا في الخيال حب”.. كثير من الحب وقليل من الخيال

من الجميل أن يفكر صناع أفلام شباب في صنع عمل موسيقي استعراضي، ذلك أن الساحة السينمائية المصرية والعربية تكاد تقتصر على أنواع فنية محدودة، تدور في فلك الأكشن والكوميدي والميلودراما الاجتماعية وقليل جداً من الرومانتيك والخيالي والرعب، ولا أكاد أذكر آخر مرة قدمت فيها السينما المصرية فيلماً غنائياً استعراضياً، وقد يكون “مفيش غير كده” للمخرج خالد الحجر منذ حوالي 20 عاماً!وحتى الأعمال الاستعراضية القليلة التي أنتجتها السينما العربية، يعاني معظمها من هزال في الخيال والتنفيذ، باستثناءات لا يكف الناس عن ترديد أسماءها.ولذلك فإن صنع فيلم غنائي استعراضي الآن ليس فقط تجربة فنية جريئة، ولكن مغامرة إنتاجية خطيرة.مقومات مشجعةينتمي فيلم “ولنا في الخيال حب” الذي شهد عرضه الأول في الدورة الثامنة لمهرجان الجونة، إلى النوع الموسيقي الاستعراضي، ويشارك في بطولته عدد من الشباب الواعد على رأسهم مايان السيد وعمر رزيق، بجانب المخضرم أحمد صلاح السعدني، وهو مقتبس عن باليه شهير ووضع موسيقاه مؤلف معروف ومحبوب، وهي مقومات  جيدة لصنع فيلم موسيقي.يضاف إلى ذلك أن سارة رزيق، مؤلفة ومخرجة الفيلم، كما يخبرنا كاتالوج المهرجان، درست الموسيقى في الكونسرفتوار والإخراج في المعهد العالي للسينما، وهي أيضاً صانعة الفيلم القصير “فردة شمال”، الذي شاهدته منذ عشر سنوات في أحد المهرجانات الكثيرة التي عرض فيها، وهو فيلم إنساني بسيط، صامت، وإن كنت قد لاحظت وقتها، أنه يبالغ في استخدام الموسيقى التصويرية الميلودرامية. لذلك كله، بقدر من التفاؤل، وقليل من التوقعات، ذهبت لمشاهدة “ولنا في الخيال حب”.  والحق أن بعض عناصر الفيلم فاقت توقعاتي، ولكن بعضها جاء أقل حتى من هذه التوقعات.يروي “ولنا في الخيال حب” قصة شابين متحابين هما وردة (مايان السيد) ونوح (عمر رزيق)، يدرسان معاً بأكاديمية الفنون، حيث يظهر أستاذ جديد عائد إلى مصر بعد سنين من الغربة في أعقاب موت زوجته، هو الدكتور يوسف، الحازم، غريب الأطوار.وعقب شجار بين وردة ونوح يعتقد نوح أنه وقع في حب فتاة تسكن بالمبنى المواجه، وهو بالصدفة منزل الدكتور يوسف، يتبين أنها مجرد دمية صنعها يوسف لزوجته الراحلة.أجمل ما في الفيلم أنه من بطولة شباب لا يتخطون العشرين، وميان السيد موهوبة وتجيد تلوين أداءها بشكل احترافي، كما أنها تبث طاقة حيوية في كل مشهد تظهر فيه، أي معظم الفيلم.. رغم أن هذه الحيوية كانت تحتاج إلى قليل من الانضباط والهدوء في بعض المشاهد. عمر رزيق مجتهد، قدم أوراق اعتماده في عدد من المسلسلات التليفزيونية خلال العامين الأخيرين، وبالمناسبة أول عمل شارك فيه هو “فردة شمال” قبل أن يتجاوز العاشرة. وهو شاب وسيم رشيق وصاحب حضور.في “ولنا في الخيال..” يلعب عمر دور شاب أناني لا يفكر سوى في اللهو والمتعة الشخصية، وإن كان خفيف الدم وطيب القلب، ملامح عمر ومقوماته البدنية مناسبة للشخصية، ولكنه عصبي ومتوتر من الداخل، وهذه العصبية تنعكس بشكل سلبي على أداءه، خاصة أن شخصيته يقع عليها الدور الأساسي في بث الكوميديا، وأعتقد أنه يحتاج إلى تدريبات من نوع خاص لكي يتخلص من التوتر، وإلى تدريبات أخرى في الأداء الكوميدي.أحمد صلاح السعدني يزداد نضجاً من عمل لآخر، وبهذا الفيلم يدخل منطقة عمرية ونفسية مختلفة، وقد استطاع أن يجعل شخصية يوسف مزيجاُ من الأستاذ المخيف غريب الأطوار، والأب الطيب الذي يخفي رقة وهشاشة شخصيته، ولكن لأن الشخصية ودوافعها وتحولاتها مكتوبة بسطحية، لذلك يتوه أداء السعدني أحياناً، خاصة حين يمثل عشر مشاهد متتالية تقريباً لا يفعل فيها شيئا سوى طرد وردة ونوح من بيته ومكتبه.وهي مشاهد كان ينبغي اختصارها، كما كان يحتاج إلى مشاهد أخرى أكثر إقناعاً حول قصة حبه لزوجته الراحلة، ولتبرير التحول المفاجئ الذي يحدث للشخصية في نهاية الفيلم،  يضاف إلى ذلك أن ضعف الحوار بشكل عام يتضح في شخصية الدكتور يوسف أكثر من غيرها. مشروع فيلميكرر الفيلم، منذ عناوينه الافتتاحية، وعلى ألسنة معظم شخصياته، كلمات مثل “الحب” و”الشغف”، ومن الواضح أن صناع الفيلم، على الأقل مؤلفته ومخرجته، لديها قدر كبير من الحب والشغف، ولكن النوايا وحدها لا تكفي في الفن، ورغم اجتهاد كل فريق العمل، إلا أن الناتج يبدو وكأنه مشروع غير مكتمل أو “بروفة” أولية لما يجب أن يكون عليه الفيلم.. بداية من السيناريو وحتى التنفيذ النهائي للاستعراضات والأغاني.فكرة العمل، مبدئياً، وكما يذكر في عناوين الفيلم الأخيرة، مستلهمة من باليه “كوبيليا” Coppélia، أو “الفتاة ذات العينين الزجاجيتين”، والذي يدور حول شاب يقع في حب دمية ميكانيكية يخترعها عجوز مجنون، ولكن خطيبة الشاب المفجوعة بهجرانه لها تذهب إلى المخترع، وتقنعه بأن تتنكر هي في هيئة الدمية لكي تستطيع استعادة خطيبها. الباليه المكتوب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر (عرض لأول مرة في 1870)، هو واحد من أعمال عدة ظهرت مع بداية الثورة الصناعية تستكشف علاقة الإنسان بوسائل التكنولوجيا مثل الكهرباء والميكانيكا، وإمكانية صنع كائنات شبه بشرية، لعل أشهرها هو رواية Frankenstein لماري شيللي (1820) وقصة The Sandman للكاتب الألماني إرنست هوفمان، المكتوبة 1816، والتي اقتبس عنها باليه “كوبيليا”.وجدير بالذكر أنه بالفعل تم اختراع ماكينة تتكلم وتلعب الشطرنج أطلق عليها اسم “أوتوماتون” أو “التركي الميكانيكي”، ظهر لأول مرة في 1770، كانت بالطبع مجرد “خدعة” أو “لعبة”، حيث كان يختبئ رجل بداخلها يلعب الشطرنج، أو يتحدث إلى الجمهور!اقتباس حرفيليس هناك أفضل من استعادة هذه الأعمال الآن (وقد عرضت نسخة جوليرمو ديل تورو الجديدة من Frankenstein في مهرجان الجونة أيضاً) للتعبير عن خوف وافتتان عصرنا بالروبوتات والذكاء الصناعي، حتى يمكن أن نقول أنه موضوع العصر، حيث يتوقع بالفعل أن يقع البعض في حب الآلة ويستبدلونها بالإنسان، وحيث نسمع، بالفعل، عن احتمالية التزاوج بين الإنسان والروبوتات في المستقبل!للأسف لا يحمل “ولنا في الخيال حب” أياً من هذه المستويات العاطفية والأخلاقية والفلسفية، التي جعلت باليه “كوبيليا” واحداً من أنجح الأعمال وأكثرها تقديماً على مسارح العالم، ليس فقط لموسيقاها ورقصاتها الجميلة، ولكن لهذه الطبقات الداكنة التي تحملها الرقصات والموسيقى.يتحدث “ولنا في الخيال حب” عن الجمال، ولكن الجمال في الفن يختلف عن جمال الأزهار والأنهار والحيوانات الأليفة، وإنما ينبع من تحويل المشاعر الصعبة، من حب وفقد وألم وافتتان ورعب وسخرية.. إلى آخره، إلى كيان ينبض بهذه المشاعر في تكوينات وتركيبات يسودها الانسجام وقوة التعبير.جمال باليه “كوبيليا”، مثل جمال “بحيرة البجع” و”طقوس الربيع”، وحشي، فاتن ومخيف وعنيف، وهو عمل سباق في المزج بين الكوميديا والغرابة المخيفة، ولكن شيئاً من هذا لا يوجد في “ولنا في الخيال حب”.فقط في مشهدين اثنين، يحاول كل من مدير التصوير محمد جاد والمؤلف الموسيقي خالد حماد أن يعطيا الإحساس بالرعب الكامن في الفتاة الدمية، أو الدمية شبه الحية.المشهدان يوحيان أيضاً بأن الأستاذ يوسف مريض نفسياً، خاصة وأنه لا يكشف عن الهدف من صنعه للدمية (نموذج لعمل تماثيل لزوجته الراحلة) سوى في نهاية الفيلم، ربما الهدف من تأجيل المعلومة إضافة مزيد من الغموض حول الشخصية، ولكن من الصعب تصديق أن كلا من وردة ونوح يتقبلان هذه “الغرابة” دون خوف.من الصعب أيضاً تصديق فكرة وقوع نوح في حب دمية بالحجم الطبيعي، حتى لو كان عبر منظار يتلصص به على الجيران، والاستمرار في تبادل الخطابات معها، فهذه أمور لا يعرفها جيل اليوم.. ولأن صناع الفيلم أنفسهم لا يكادون يصدقون، فقد وضعوا على لسان نوح جملة يقول فيها أنه يحب كتابة الخطابات!”كوبيليا” نص فانتازي يمكن أن تحدث فيه أمور عجائبية، كما أنها تدور في زمن غير الزمن، حين كانت الدمى زينةً، والدمى الميكانيكة اختراعاً مبهراً. ولذلك فإن المعادل الموضوعي المناسب لها، في زمننا، أن تكون “روبوتاً” من تلك الروبوتات التي تثير الولع، والهلع، بين أجيال اليوم، وساعتها كان سيكتسب الفيلم معان إضافية مهمة توازي المعاني التي يحملها باليه “كوبيليا” في زمنه، وهذا مجرد مثال على الاقتباس الحرفي دون التفكير في جذور وجوهر ومرجعيات العمل المقتبس عنه.بين الفكرة والحرفةفإذا تركنا السيناريو، وذهبنا إلى الاستعراضات والموسيقى، التي يفترض أن ينبني الفيلم حولها، كما يفترض في الباليه والأفلام الاستعراضية، سنجد عجباً: بطلا الفيلم يدرسان بأكاديمية الفنون، ونوح دارس وراقص للباليه، مثل كثير من أبطال الأفلام الاستعراضية، حيث يصبح المكان وقاعات وتدريبات واختبارات ومشاريع الدرس فرصة لعمل استعراضات مندمجة وعضوية مع دراما العمل.ولكن “ولنا في الخيال حب” لا يستغل هذه الإمكانية، وفي النوع الموسيقي، مثل بقية الأنواع، يجري التعاقد مع جمهور الفيلم على نوع الفيلم مبكراً جداً: أي يبدأ الفيلم الموسيقي باستعراض (كما نرى في La La Land مثلاً) أو يبدأ فيلم الأكشن بمطاردة أو معركة. ولكن “لنا في الخيال..” يكتفي ببعض الحركات الخفيفة على موسيقى La La Land يقوم بها نوح في بداية الفيلم، ثم يستغرق في حكاية الثلاثي وردة ونوح ويوسف، ويعيد ويزيد لما يقرب من ساعة وربع الساعة، قبل أن يتذكر أنه فيلم استعراضي قبل نهاية الفيلم، فيختم باستعراضين متتاليين يغني فيهما عمر رزيق وأحمد صلاح السعدني، رغم أن صوتيهما قبيح، ولا يصلحان للغناء، حتى لو كان المقصود القول بأن أي شخص في العالم من حقه أن يغني!مرة أخرى، هناك رغبة وحب كبيرين للموسيقى والسينما في هذا الفيلم، ولكن الرغبة تحتاج إلى قدرة والحب يحتاج إلى أفعال، تتمثل في امتلاك الحرفة والإتقان بداية من الكتابة وحتى المونتاج، كما أن حب الغناء لا يكفي وحده لكي يغني المرء على الملأ. *ناقد فني